أسماء القطيبيَّة
مع بداية ظهور التصوير الفوتوغرافي، أي منذ اختراع الكاميرا في العام 1839 تقريبا، ازدحمتْ العواصم الأوروبية بمعارض للصور في شتى المواضيع؛ فمنها ما كان يُمجِّد الجمال عبر التقاطات من الطبيعة والحياة، ومنها ما كان يحمل رسائل سياسية واجتماعية وتاريخية، وبين جميع هذه الصور كانت هناك أعمال المصورة ديان آربوس. صور تبدو شاذة في مواضيعها عن كل ما هو مألوف ومستهلك ومتوقع. فهذه الأعمال ما هي إلا صور لأقزام وتوائم متشابهين وأناس غريبي الأطوار، يُحدقون جميعها في الكاميرا. ورغم أنها أعمال قليلة بالنسبة لمصورة كرست معظم حياتها للتصوير، إلا أَّن هذه الصور أثارت ضجة كبيرة عند عرضها لأول مرة، وبعد وفاة ديان آربوس منتحرة عام 1971 عن عمر يناهز 48 سنة.
نشأت ديان آربوس في عائلة يهودية ميسورة، حريصة أشد الحرص على توفير كل أسباب الرفاهية لابنائها، وقد تزوجت آربوس من مصور أحبته وعملت معه لفترة طويلة في مجال الإعلانات، ولكن بعد فترة قرَّرت آربوس أن حياتها خالية من أي معنى حقيقي، أو كما تقول عن نفسها: "لم أحس أبدا بالمحنة، كنت حبيسة شعور باللاواقعية.... والشعور بكوني منيعة كان شعور مؤلما، مثلما يبدو مضحكا"، وعليه فقد انفصلت ديان عن زوجها وبدأت رحلتها في التصوير في قلب نيويورك، وبشكل محدد في الملاهي، ملاجئ المشردين، الكرنفالات، حفلات الشواذ والسيرك. ولعلها مفارقة مضحكة أن تكون ديان قد صورت مواضيعها في نيويورك، التي كانت تعد مدينة الأحلام وقبلة السياح والباحثين عن الثراء والشهرة انذاك. وكأنها تتعمد إظهار جانب تحاول المدينة المتحضرة تجاهله.
من الصعوبة تكهُّن الآلية التي كانت ديان آربوس تتبعها لاختيار مواضيعها، فالقاسم المشترك بين جميع صورهو الشعور بعدم الارتياح الذي تبعثه فيك أعمالها، ففي إحدى الصور مثلا تظهر ثلاث شابات متشابهات، ربما توائم، يلبسن نفس الزي ويجلسن على سرير واحد. ورغم ان الصورة ملتقطة من الأمام، وتبدو فيها الشابات الثلاثات مستعدات للظهور إلا انه من الصعب فهم تعابير وجوههن، فتارة يبدو انهن مرتاحات، وتارة أخرى مستسلمات، لكنهن بالطبع غير ودودات. كما ان هناك تلك الصورة التي تظهر امرأة بدينة تضع يديها على مسندي كرسي تجلس عليه، ويسترخي فوقها كلب صغير، وتبدو المرأة في الصورة غير محرجة من ظهور جسمها الضخم بهذه الطريقة، بل ان جلوسها يوحي بنوع من الفخر أو التحدي ربما. وتعتقد سوزان سونتاغ ان آربوس كانت تتعمد أن تصور الأشخاص في مثل هذه الأوضاع الغير مألوفة ومحببة حيث تقول: "بدلا من ان تحاول استمالة موديلاتها إلى وضع طبيعي أو نموذجي فإنها -أي آربوس- تشجعهم على أن يقفوا بشكل أخرق... الوقوف أو الجلوس بجمود يجعلهم يبدون مثل صور أنفسهم".
وبرأيي أن ما يميز أعمال آربوس ليس فقط طريقة التصوير أو الانطباع المشترك الذي توحي به الصور، بل جرأتها في المخاطرة بالخروج من الخط المعروف للتصوير، وعدم اكتفائها بتصوير ما هو متاح، حيث خاطرت آربوس بالدخول إلى أماكن وضيعة والتعرف على أناس يميلون إلى الإستقلالية والابتعاد عن الظهور الاجتماعي، بل واستطاعت إقناعهم بالتصوير. من أجل أن تضعنا في مواجهة مع أولئك الناس الذين لا نعيرهم اهتماما، أو ربما لا يتعدى شعورنا حولهم أكثر من الشفقة، وتحديق هؤلاء في الكاميرا كان اشبه بالتعرف عليها لأول مرة، أو ربما التعرف على انفسنا من خلالهم. يقول حازم شيخو في مقالته "ديان آربوس: في عالم الهامش والشذوذ": "... فبالنسبة لها كان التصوير الفوتوغرافي فن كامل لا حاجة به إلى التزييف وأساسه الصدق والمباشرة، وهي انطلاقا من ذلك حاولت أن تنتهك راحتنا وسكينتنا وعملت على طرح تساؤلات أكثر من تقديم أجوبة، وربما التحدي الأكبر للناظر كان في مفهوم الجمال، فهل يمكننا اعتبار هذه الصورة بالأبيض والأسود والمتقشفة والفجة جميلة؟...هل تعطينا آربوس مفهوما جديدا ومتمردا وغريبا عن الجمال أم أن جمالياتها وبكل بساطة وهم؟". إنه سؤال تصعب الإجابة عنه؛ فالأعمال السريالية التي قدمتها ديان لا تزال تحمل نفس ذلك الانطباع الذي تركته في نفوس زوار معارضها منذ أكثر من 50 عاما، شعور بالتناقض، والغرابة، والصدق.