يد واحدة ستصفق!

أمل السعيدية

لقد تعودت في هذه المساحة أن أشارككم أفكاري وهواجسي كأصدقاء يعرفون بعضهم جيداً، وربما يحرص بعضكم على قراءة هذا المقال، وآخرون يعرفونني للمرة الأولى لحسن الحظ، فكل ما فات مني، قد انتهى إلى غير رجعة، غير فخورة به ولا محبة، لذلك لابد أن أقول لكم ما الذي يدفعني للبكاء في هذا الوقت المتأخر من الليل، يوم آخر مضى من حياتي، هكذا دون أن أفعل شيئاً يمكنني الإشارة إليه، تبدو الساعات مثل الغبار المتناثر بلا وضوح، لا استطيع أن أحدد فيما هو الطقس مغبر فعلاً أم لا، إنني أريد على الأقل غباراً متماسكاً، لا شيء يمكنني فعله في هذه المدينة، تكاد الحياة تسير بطيئة إلى حد قاتل. إن الإنسان اليوم ذاهب إلى عزلته، يؤلفها كما لو أنه يرتب كوكباً خاصاً به، لا عجب في أن الكثير من المنتجات التجارية تعلمك أنك بعد اليوم لن تحتاج إلى أحد. حتى العلاقات الاجتماعية تحولت إلى العالم الافتراضي، نتشارك أحلامنا ومخاوفنا مع افتراضيين ولا نريد لقاءهم، يكفينا منهم حضورهم معنا هناك، ولكن العجيب هو أن نحب الوجود في المدن المزدحمة، ففيها نكون وسط الزحام لكن فرديتنا ناضجة وجاهزة لأنّ نقطفها دوماً، لطالما سرت في مدن مزدحمة طوال الأعوام الماضية، لكنني كنت لا أحس أن أحداً يراني، كنتُ لوحدي تماماً، أمّا هنا في هذا المكان أحسُ أنني مضطرة للتمسك بأحدهم، للتمسك بالأفكار المشتركة، بالقواسم المشتركة لمجموعة من الناس، القبيلة، الدين، العادات، وصولاً إلى هذا الزي الأسود (قد تبدو هذه الإشارة ساذجة لكن لا بأس بها). فعلى الرغم من هذا الأثر البالغ للعولمة ولكون العالم قد أصبح قرية صغيرة وهذا ما يمكنني التأكيد عليه عبر هاتفي الذكي الذي إصل به إلى أي مكان، وتأثري بتلك الدعاوى عن الفردانية والعزلة، اصطدم يوماً بعد الآخر في هذا المكان بهذا الحائط الكبير من الحشود التي تصر على تقاسم الأفكار بل وأن تظهر كلها منسجمة يمثلها صوت واحد مشترك. كم يبعث هذا على الخذلان والسأم؟

إنني لا أحاول لوم أحد، بل ولا أرفض هذا تماماً، كل ما أرغب به هو أن أتمكن من تحديد الطرق التي ينبغي عليّ السير فيها، وأن اختار أشواكها تماماً كما أختار نسيمها العليل وأوراقها المنخفضة التي تلمس راحة رأسي. من الجيد أنّ أحظى بتحدياتي الخاصة، دون أن اضطر لخوض أية صراعات في قضايا لا أريد الخوض فيها، لا كفتاة متمردة كما يفهم كثر، بل كإنسانة حرة. ليس هذا فحسب، أريد حياةً كاملة، لا نقصان فيها، الكثير من الفن، ومتاجر الكتب، ارتياد المواصلات الرخيصة والمتوفرة لتقلني إلى أي مكان أرغب في الذهاب إليه، المستشفيات التي لا تؤجل الكشف عن الأمراض المستعصية، والعمل الذي أحظى به لما اتمتع به من كفاءة، والغرفة التي لا أدفع لقاءها ثمناً باهظاً كل شهر وشبكة الانترنت السريعة التي توصلني بالعالم. اعرف جيداً أنّ التحديات مختلفة في كل مكان، لكنني أصر على أنّ بالإمكان تلافي هذا كله في هذه المدينة. لا أريد يوماً أن أجد نفسي في اعتاب الشيخوخة وأنا لم أعش حياتي كشابة مليئة بالحيوية، ولا أريد لنفسي العطب المبكر الذي يصيب الشباب هنا. الحياة واسعة في الخارج فلماذا نريدها ضيقة جداً؟ وعلى مقاس من؟

حتى إن فشلت في أن أتعلم ما يمكن أن يجعلني ناجحة في نظر الناس ما يهمني هو أنّ خياراتي هي التي تحققت في النهاية، اتذكر الآن اقتباساً أثيراً من فيلم أمريكي لم أعد اذكر اسمه تقول فيه البطلة عن أختها: "كانوا ثقاباً لنارها، لقد كانت آخر راعية للبقر، كلها رومانسية وفشل" لا بأس بالأحلام، ولا بأس أن كنتُ رومانطيقية، وأهلاً بهذا الفشل الدافئ. أريد الآن أن أتمالك نفسي، لأصبح جاهزة لانتزاع هذا كله، ربما تصفق اليد الواحدة هذه المرة.

تعليق عبر الفيس بوك