مباركة الأمّة التي تأكل من صنع يدها

حمد بن سالم العلوي

كانت مقالتي في الأسبوع الماضي حول معيقات الزراعة، فوجدت من الضرورة إضافة بعض التفاصيل عليها اليوم، فأوضح كيف تحولت الزراعة إلى (فوبيا) مخيّفة للناس وقد نفروا منها، وذلك بما أحيطت هذه الزراعة من محاذير، تارة بعدم توفر المياه، وتارة بالاستنزاف للمخزون المائي، وأن ليس للزراعة جدوى اقتصادية، وكأن الماء ينزل من السماء بتقديرات البشر، ونسوا أنهم لم يعملوا العقل والوسيلة للحفاظ على موارد المياه، التي أودعها الله أمانة في عنق الإنسان لتصريف أموره في الحياة، فعلى سبيل المثال كان الإنسان يجمع الماء بأساليبه التي ابتكرها، ليخدم بها حاجته، ونجح في ذلك بما يتوافق وعصره وإمكانياته المحدودة.

فعندنا في عُمان على سبيل التوضيح، كان الإنسان يعترض ماء الوادي بجدار من الحصى وطبقة من الطين، فأسماه (حيالة، قبيل، حبيسة) وهكذا، وإذا كان الماء المعترض لا يكف للري المباشر، فإنه يصنع له (بركة، لِجِل) يجمع فيها الماء وبذلك يضاعف قوته للاندفاع في الساقية، وهناك طريقتان أخريان واحدة النزول إلى أعماق الأرض، فيستخرج الماء في أفلاج بهندسة عجيبة، أسميت بـ (الأفلاج الداودية) وربما سُمِّيت بالداودية نسبة إلى خوارق نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام، الذي كان يملك الجن لعمل ما ليس بمقدور الإنسان عمله، وكان الناس إذا عَظِم في ذهنهم أمر ما نسبوه إلى الجن، وهناك مصدر ثالث وهو استخدام الآبار، وكل هذه الوسائل ظلت سائدة في نظام الري لسقي المزروعات، وكذلك الحيوانات التي كان لها نصيب في الماء، ولها أحواض خاصة ترِد إليها.

وإذا نحن رأينا تلك الأساليب البدائية للناس في الماضي، وهي تُعد من المعجزات التي أنشأوا عليها مزروعات كثيرة، وربوا قطعانا من الماشية عليها، بتلك الوسائل المحدودة والتي لا تكاد تساوي شيئاً مقارنة بما بأيدينا اليوم من إمكانيات كثيرة، وربما كان سرّ نجاحهم أنهم لم يكن عملهم للحكومة، وقيل في الماضي إنّها خدمة (سركال) فظلت هكذا - مع الأسف - هذه الوظيفة العامة، لا تحاط بالإتقان والاحتراف.

لقد ساقتني الصدفة ذات مرة، لأن أكون شاهداً على امتهان مهنة الزراعة، فكنت في محل لبيع الخضروات، فأتى رجل عُماني وقور، يحمل بكلتا يديه حزمة نعناع، فوضعها على طاولة العامل صاحب المحل، ويبدو من سياق الحديث الذي دار بينهما، إنّه مزود لذلك المحل بالمنتجات الزراعية، فعندما أراد أن يغادر المحل، قال للعامل بكم تسعر هذه؟ فرد عليه بـ (300) بيسة، فحاول فيه أن يزيد عليهم قليلاً، فلم يقبل، فأخذ ذلك المبلغ الزهيد وخرج، فذهبت للعامل بعدما ابتعد ذلك الشخص، فقلت له، لماذا لم تعطه خمسة ريالات؟ وإنك حتماً ستبيعها بعشرة أو خمسة عشر ريالاً، قال، بما معناه إنه دائماً يشتري منه هكذا؟!

تُرى هل لو كانت هناك جهة تشتري المنتجات المحلية؟ هل كان ذلك الشخص وأمثاله سيضيّعون وقتهم سدى في جهد كبير لا يأتي عليهم بمردود؟ فالذي حصل عليه لا يساوي وقود سيارته إلى السوق، وهل سنرى الناس الذي يضعون منتجاتهم على الشوارع الرئيسية، ويبيعونها برخص التراب؟! وذلك نتيجة الملل والانتظار تحت حرقة الشمس!! لو كان هناك اهتمام بالزراعة كما ينبغي؟! ولكن الهروب من المسؤولية إلى الأمام، بمقولة التجارة (حرة) وهي حرة على الضعفاء للأسف، أمّا حيتان التجارة فلهم الحماية، حتى من كان يأتي له بسيارة مستعملة تناسب مقدرته المالية، تم تشميعها بقرار وزاري، جعل دول دور الجوار هي المستفيدة من ذلك.

لذلك اليوم لا نجد إلاّ نادراً منتجاً زراعياً وطنياً بالسوق المحلي، وكذلك اللحوم يؤتى بها من الخارج، وإذا بحثت عن الأسماك تجدها مثلجة، وغير متوفرة في نفس الوقت، إلا إذا كنت خبيراً بأوقات تواجدها بأيدي بعض الصيادين، وإذا توفرت فهي بأسعار غير معقولة، والأمر العجيب أنها في الخارج أرخص، وأكثر جودة مما هي عليه في الأسواق المحلية، وهي لا تبعد إلا بعض الأمتار عن البحر العُماني، وعندما سألت أحد الأصدقاء المساهمين في شركة الأسماك العمانية، قال لي، إنّه لم يحصل على أرباح مقابل أسهمه منذ سنوات، فهل لهذا الكلام من معنى علمي اقتصادي، إلا أنّ هناك عدم وجود مصداقية في إدارة هذه الثروات الوطنية.

تُرى من المسؤول عن هذا التّرهل الذي أخذ يضرب بأطنابه في كل مكان؟ فهل كل صغيرة وكبيرة يستوجب على القائد أن يشرف على تسييرها بنفسه؟! إذن لماذا نُشر التعليم المجاني.. سواء كان التعليم العام أم الأكاديمي؟ ولماذا يخطط سنوياً لتنفيذ البنية الأساسية للدولة. وتنفيذ المشاريع التنموية إذا لم تكن هناك عقول تديرها؟! ولماذا تُصدر القوانين والأنظمة إذا ليس هناك من يفهمها؟! أليس مهمة القائد إصدار التوجيهات وعلى المعنيين التنفيذ؟! وإلى متى سيظل المسؤول غير مسؤول أمام نفسه وضميره؟ ألا يخجلون من قائد النهضة الكبيرة الذي ظلّ يسهر عليها حتى أصبحت ملء السمع والبصر! فبماذا سيقابل المسؤول ربه يوم يُسأل عن أمانته.. ماذا فعل بها؟ ويُسأل عن ماله كيف اكتسبه؟ ومقابل ماذا حصل عليه؟! ثمّ أين دور المؤسسات الرقابيّة في الحساب والمساءلة والعقاب؟! أم سيظل السكوت يسود الحال؟! حفظ الله عُمان وقائدها العظيم من أي مكروه.

تعليق عبر الفيس بوك