زيارة العاهل السعودي للقاهرة.. معالجة إستراتيجية

عبيدلي العبيدلي

حظيتْ زيارة العاهل السعودي سلمان بن عبدالعزيز لمصر، خلال الأسبوع الثاني من أبريل 2016، باهتمام جميع الأوساط العربية والدولية، وانتقل الاهتمام من المؤسسات ودوائر صنع القرار في الدول ذات العلاقة بمنطقة الشرق، كي تصل إلى مستوى الأفراد والمواطنين العاديين الذي تناولوا أحداث الزيارة بالتعليقات التي تراوحت بين "الجد والهزل".

ولو أريد تصنيف ردود الفعل العلنية، لأمكن وضعها في ثلاث فئات رئيسة: الأولى منها يمكن إيداعها في الفئة الموتورة، التي لا تريد أن تشهد العلاقة بين أي بلدين عربيين أي تقارب؛ لأنَّ ذلك يضر بمصالحها، ويشكل تهديدا مباشرا قائما أو مستقبليا على موازين القوى في المنطقة لغير صالحها. ومن ثم سعت هذه الفئة إلى دفع نقاط الخلاف التاريخية بين البلدين، وفترات الصدامات الإعلامية التي اعترت العلاقة إبانها إلى السطح، كي تثبت استحالة التقارب، مستعينة في هذا المجال بمجموعة من الحقائق التاريخية التي عكست اضطراب العلاقات بين البلدين؛ سواء إبان مرحلة حرب اليمن الأولى في الستينيات، أو خلال مرحلة اتفاقات كامب ديفيد في نهاية السبعينيات. أما الفئة الثانية، فكانت على النقيض من ذلك وراحت تسترجع تاريخ مراحل الوئام التي بدأت بتوقيع اتفاقية 1926 بين البلدين، وتأييد الرياض "مطالب مصر الوطنية في جلاء القوات البريطانية عن الأراضي المصرية، ووقوف المملكة بكل ثقلها إلى جانب مصر أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956"، والمساعدات المالية التي "بلغت 100 مليون دولار بعد سحب العرض الأمريكي لبناء السد العالي".

وبين هذين النقيضين، كانت هناك الفئة الثالثة التي عبر عنها بعض المواقف الساخرة التي توقفت عند قضايا مثل "الخلاف حول ملكية جزر تيران وعصافير". ثم تطورت لتتحدث عن خطورة قبول مصر لملكية الجزيرتين؛ لأن ذلك يفتح أبواب مناطق أخرى مماثلة مثل حلايب.

غاصت ردود الفعل في تفاصيل نتائج الزيارة التي غيبت عنها الرؤية الإستراتيجية التي تستحقها، والتي تنطلق من خلفية قومية عربية مصدرها أن الأمن الإستراتيجي العربي مُهدَّد اليوم من جهتين: من جهة الشرق حيث الخلاف التنافسي بين إيران والعرب، والذي انقلبت موازينه لصالح الأولى بعد تفتت العراق، واندلاع حرب اليمن، ولم يعد هناك من دولة عربية بوسعها وقف المد الإيراني، سواء أرادت ذلك أو أبته، سوى السعودية، التي أصبحت اليوم -موضوعيا- الدولة الوحيدة القادرة -إن هي شاءت- على وقف الزحف الإيراني. أما من جهة الغرب، فهناك الكيان الصهيوني المتربص متحينا لحظات الضعف العربي كي يواصل استفراده بالشعب الفلسطيني من جانب، ولا يكف عن قضم ما تسمح له الظروف بهضمه من الأراضي العربي من جهة ثانية. وإذا كان الخطر الإيراني قائم على التنافس والزعامة، فالخلاف مع الكيان الصهيوني يرتكز على النفي والإزالة، وهنا ليست هناك دولة اليوم، بعد تمزق كيان الدولة السورية سوى مصر المؤهلة لوقف التمدد اليهودي على حساب الوجود العربي.

هذا التشخيص الموضوعي ينطلق من خلفية إستراتيجية، تتحاشى الدخول في تقويم طبيعة النظام القائم في أي من البلدين: مصر أو السعودية، وتبتعد عن قراءة الأوضاع الداخلية لهما، وتحصر نفسها عوضا عن ذلك في رؤية موازين القوى الضالعة في الصراعات الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط، والسيناريوهات المتوقعة لها في المستقبل المنظور.

وعلى هذا الأساس، تعتبر هذه الرؤية -كما يصفها الكاتب المصري عبدالفتاح الجبالي- "مصر والسعودية دولتين محوريتين في الإقليم العربي حيث يشكلان معا نحو 34.1% من سكان المنطقة (مصر 25.1% والسعودية 9%) كما يشكلان معا نحو 37% من الناتج المحلي الإجمالي العربي عام 2014 (مصر 9.9% والسعودية 27.1%) وهو ما يجعلهما محورا مهما من المحاور الاقتصادية في المنطقة ككل. هذا مع ملاحظة التباين الشديد فى متوسط دخل الفرد؛ إذ يبلغ فى السعودية نحو 25401 دولار عام 2014 مقابل نحو 3337 دولارا في مصر".

وإذا أضيف لذلك أن الأولى (السعودية) تملك أكبر احتياطي نفطي مكتشف عالميا، وأكبر مصدر للنفط في السوق الدولية، والثانية (مصر) أنها تتحكم في ملاحة قناة السويس، وضمت إلى ذلك القدرات العسكرية التي بحوزة الطرفين، من سلاح وعتاد لدى الرياض، ورجال وتأهيل بين يدي القاهرة، نكتشف الأهمية الإستراتيجية لهذه الزيارة، والبعد القومي الذي تمثله في موازين القوى الشرق الأوسطية، وفي منطقة ملتهبة تنتظرها مشروعات إعادة رسم جديدة هي البلاد العربية.

ليس هناك من في وسعه إنكار ما اتسمت به العلاقات المصرية السعودية من تأرجح واسع خلال الستين السنة الماضية، لكنها اتسمت أيضا بثباتها عند المنعطفات الحادة كتلك التي تشهدها المنطقة العربية اليوم، والتي لم تعد تستحمل أدنى شكل من أشكال الاهتزاز، الذي يمكن أن يفتح شهية العدو الصهيوني التوسعية، او يذكي نزعات التفوق الفارسية.

وختاما.. نتوقع أن ينبري من بين القراء الكرام من يحاول دحض هذه الأهمية الإستراتيجية للزيارة والنتائج المترتبة عليها؛ كون البلدين -من وجهة نظر مثل هذا القارئ الكريم- غير مهيأين لمثل هذا البعد الإستراتيجي، ومن ثمَّ فمن الخطأ القاتل تحميل بلد ما لا طاقة له به أو ما لا يريد أن يحمله على عاتقيه.

والرد هنا نكرره، إننا لا نعالج رغبة هذا البلد أو ذاك، بل نتناول المسألة من جانبها الموضوعي، ونشخص موازين القوى، بعيدا عن النوايا الحالية لدى أي قوة في المنطقة. لكن ذلك لا يعني أن هذه الخطوة إذا قدر لها النجاح، وكتب لها الاستمرار، وتحققت لها مكونات التطور، ستكون بعيدة عن التحديات، وفي مأمن من المخاطر، التي يجب أن تستعد الدولتين، كل واحدة منهما بشكل منفرد للتغلب عليهما، وعلى نحو مشترك لتجاوزها.

فمن غير المتوقع ولا الطبيعي أن تصمت إزاء هذه الزيارة تل أبيب، ولا المنطق أن تغض الطرف عنها طهران، ومن ثم فمن الأجدى أن تستعد القاهرة وتتجهز الرياض بشكل جيد للمرحلة الصعبة المقبلة إن شاءتا أن تعطي هذه الزيارة أكلها المرتقبة الطيبة.

تعليق عبر الفيس بوك