أهمية النقاش

زاهر المحروقي

من الأسباب التي تؤدي إلى التطرف الديني، - ضمن أسباب كثيرة- أنّ بعض الشيوخ والحركات الإسلامية تربي الشباب على التطرف في تبني الأفكار والآراء، ولا تسمح بطرح الأسئلة؛ وحين يبدأ بعض الشباب في التساؤل حول بعض الأفكار، لا يجدون إجابات مقنعة عليها، فيرتبكون ويعيشون فترة من التيه، يصل بهم في النهاية إلى التطرف بالاتجاه المغاير، ويتخذون موقفاً معادياً للدين، وقد حدث هذا مع الكثيرين، ولعل أهم تجربتين مكتوبتين عن مثل هذا التحول، هما تجربتا خالد البري الذي وثّق تجربته في كتاب "الدنيا أجمل من الجنة، سيرة ذاتية"، والذي يأخذ القارئ إلى رحلة في عقله أيام انتمائه إلى الجماعة الإسلامية، ثم تحول من تطرف إلى تطرف آخر معاكس، وسامح فايز الذي وثّق تجربته في كتابين هما "جنة الإخوان، رحلة الخروج من الجماعة" و"جُحر السبع" وهي رواية قال فيها ما لم يقله في كتابه الأول.

في روايته "جحر السبع" يحكي سامح فايز، العَالمَ الذي يعيش فيه الخارج عن الجماعة الدينية بعد أن يهجر التيار الديني، وكيف يمر بسنوات من التيه حتى يتمكن من استرداد حياته مرة أخرى دون "تشوهات" التربية التي تربى عليها، وربما عجز ذلك الهارب من جنّة الجماعات أن يسترد عافيته مرة أخرى، فيظلّ على انتمائه الفكري لها حتى وإن لم ينتمِ إليها تنظيمياً، وذلك من خلال سرد حياة البطل "يوسف عبد العزيز" الشاب الذي نشأ وتربى طفلاً في جماعة دينية ثم خرج عنها ليتحول به المقام إلى الإلحاد؛ ويُحسب لسامح فايز أنه استطاع أن يكتب عن حالة التيه التي يمر بها الشباب الخارجون عن الجماعات الدينية، وكيف أنهم يتعاملون بمنطق ردّ الفعل في التعامل مع التيار الديني، ممّا يتسبب في إلحاد أغلبهم، أو الظن أنهم كفروا بتركهم لتلك التيارات، خاصة أنهم تربوا في أحضان هذه الجماعات منذ طفولتهم المبكرة. ويحاول سامح فايز، التأكيد على خطورة تلك التشوهات التي تتركها تلك التربية في عقول الأطفال والتي تسيطر على تصرفاتهم في مراحل عمرية متقدمة، ويسلط الأضواء على تلك التغيرات الغريبة التي تظهر على معظم المنشقين، وكيف أنهم ربما ظلوا يحيون داخل تلك الجماعات حتى وإن تركوها، لأنهم يتعاملون مع الآخر بنفس تراتيب الجماعات الفكرية التي نشؤوا عليها.

إنّ رواية "جحر السبع" رغم أنها لا ترتقي إلى المستوى الفني للرواية، إذ هي أقرب إلى اليوميات، إلا أنها تطرح عدة تساؤلات أربكت عقل بطل الرواية يوسف عبد العزيز، وهو الذي يمثل الشخصية الحقيقية للمؤلف، إذ صدّر روايته بعبارة "رواية واقعية"، وجاءت الرواية تكملة لكتابه "جنة الإخوان - رحلة الخروج من الجماعة"، وقد تكون المعضلة في هذه التساؤلات أنها لا تجد الإجابات المقنعة، ممّا يدلّ على خطورة كبت الأسئلة وقمعها وعدم الترحيب بالاختلاف في الرأي ومنع الحوار، فيسبب كلُّ ذلك ردة فعل لدى البعض تؤدي إلى النفور من الدين والتدين.

احتفى الكاتب ثروت الخرباوي برواية "جُحر السبع"، وهو الذي سبق له أن ترك جماعة الإخوان المسلمين وكتب في ذلك كتابه "سر المعبد"، كما سبق وأن احتفى بكتاب "جنة الإخوان"، وكتب مقدمته، ويقدم قراءته للرواية، ويقول "إنّ يوسف الطفل الصغير، قبل أن يشب عن الطوق كان قد وقع فى براثن الحفرة، فإذا بأصحاب الحفرة يرسمون له طريقه، ويضعون أمامه صورة متخيلة عن ربهم؛ فهذا الرب هو صانع النار، والحارس الأكبر لها، وهو الذي وضع الحياة كلها في سلة الحرام، ليس مباحاً لك أيها الطفل يوسف أن تناقش أو تفكر أو تعترض، فأنت ما أنت إلا واقع فى الحرام إن لم تأخذ بتعاليم "أهل الحفرة"، وحينما كانت نفس الطفل يوسف تناقشه عن الدواعي لهذه المحرمات، كان التهديد الذي وضعوه في عقله يقفز سريعاً أمامه: احذر يا يوسف فإنّ الله سيمسخك قرداً أو خنزيراً كما فعل باليهود، ولكنّ الطفل يكبر والأسئلةُ تتكاثر على ذهنه، ولا يجد إجابات لأسئلته عند الجماعة التي قامت بتجنيده، فتلك الجماعة لا تعرف إلا الحرام والحرام، وحين تشتد أسئلته كانوا يعطونه كتيبات صغيرة تشرح عذاب القبر وأهوال يوم القيامة، لذلك كان لا بد أن يتمرد يوسف بعد أن دخل فترة المراهقة. وفي التيه يأخذنا الكاتب إلى مناطق ملغومة، فذلك الفتى الذي كان يعيش في دائرة الحرام أصبح يعيش على أرض الإلحاد؛ ومع فقر المال والبحث عن فرص العمل، وفقر الفكر والسعي في الآن ذاته لاستكمال التعليم تستمر رحلة التيه مع يوسف، كان يوسف هو البطل الظاهر فى تلك الرحلة ولكن جماعته الإسلامية كانت هي الخلفية التى انتقم منها بالإلحاد، لم يكن ينتقم من الدين الصحيح أو يهجره أو ينقم عليه، لكنه رفض دين تلك الجماعات، فظنّ أنه حين تمرد عليها إنما يكون قد تمرد على الدين كله، لأنه لم يعرف الدين إلا من خلال هذه الجماعات".

هناك نقطة لم يتطرق إليها الخرباوي في قراءته، وهي ما تزرعه الجماعات الإسلامية أو الشيوخ بصفة عامة من إلغاء الآخر؛ فيحكي سامح فايز كيف أنّ المدرس جورج علّم الطلبة حصة الدين الإسلامي في أحد الأيام، لأنّ مدرس الدين كان غائباً، وكيف أنّ أخلاق هذا المدرس شدت إليه الطلبة، وأنّ جيران البطل يوسف كانوا من المسيحيين وكانوا متصفين بالأخلاق الحميدة، فيما وجد أنّ أخلاق بعض المسلمين كانت سيئة، فكان التساؤل: كيف يكون هؤلاء من أصحاب النار؟! وفي الواقع فإنّ "بعض" المسلمين يرفضون "البعض" الآخر من المسلمين أنفسهم، فكيف بالديانات الأخرى؟ هذا الأمر جعل من البعض يظن أن كره الآخر وإلغاءه من أساسيات الدين الإسلامي لذا كفروا به فبحثوا عن الإنسانية حتى لو كان في "الإلحاد"، حسب مفهومهم.

في الآونة الأخيرة زاد الحديث عن ظاهرة الإلحاد عند الشباب، ومع ذلك فلا توجد إحصائية رسمية لعدد الملحدين، لأنّ معظم من يلحد أو يترك الدين يكتم ذلك، ولكن حسب دراسة أعدها الباحث السعودي البراء العوهلي حول هذه الظاهرة - وهو المهتم بقضايا فكر الشباب- فإنّ هناك كثيراً من المؤشرات تؤكد أنّ الإلحاد منتشر بشكل كبير؛ ويرجع السبب إلى التطرف والجمود الديني؛ فغالبيةُ من ألحدوا -في مجتمعنا- كان إلحادهم ردة فعل نفسية من التشدد الديني والاجتماعي والذي بدوره يؤدي إلى النفور من الدين والتدين، والدليل أنّ كثيراً من الذين ألحدوا قد تربوا في بيئات دينية أو اجتماعية متشددة، وقد حفظ بعضهم القرآن الكريم وربما تتلمذ على بعض المشايخ، ثم صار به الحال إلى الإلحاد.

ما طرحه سامح فايز في "جحر السبع"، من أسئلة، يحتم على الشيوخ أن يرحبوا بأسئلة الشباب، وأن يكون هناك حوار حقيقي بين الطرفين، لا أن يتلقى الشباب مجرد المواعظ والخطب التي تفرض عليهم أن يأخذوا بكلِّ ما يجيء فيها بتسليم تام. فبعد أن أصبح العالم قرية صغيرة لا يمكن أن تبقى تلك المواعظ والخطب مؤثرة، إذا لم يساير أصحابُها العصر، ولا يمكن أن يبقى الشباب أسيري قصص الماضي، وأمامهم الآن العالم كله في الهاتف يشاهدون بأم أعينهم كيف تطور العالم وتطورت العلوم، وبعضُ المشايخ يرددون قصصاً خيالية أو كاذبة عن معجزات /

تتناقض مع القوانين التي وضعها الله في هذا الكون، فيما يركز الآخرون على العاطفة فقط مع "وصلة بكاء"، وهذا يدفع البعض لأحد أمرين: إما أن يعيش بتناقض بين عالم النظرية وعالم الواقع، أو أن يكفر بكلِّ تلك المرويات صحيحها وضعيفها حتى ما ثبت منها في القرآن والسنة الصحيحة؛ لذا فمن المهم ألا يكون الخطاب الديني سبباً في تشكيل عقليات أسطورية عن طريق نقل قصص وحكايا لم تثبت ونشرها بين الناس ظناً منهم أنها ستزيد في إيمانهم، على حين قد تكون النتيجة عكسية، -حسب رأي الباحث البراء العوهلي- وهذا ما يحدث الآن بالفعل، فجمود شيوخ الدين وغياب الحلول، جعل الكثير من الشباب يبحثون عن المهرب، وهي مفارقة عجيبة أن يكون هؤلاء الشيوخ هم سبب لإلحاد الشباب؛ فطرحُ الأسئلة يقود دائماً إلى الوصول للحقيقة.

تعليق عبر الفيس بوك