مواقف خالدة في ذاكرة معتقة (8)

علي بن سالم كفيتان

حدثني محمد قائلاً: وذهبت برفقة أبي إلى سوق الحصن الذي سمعت به ولم أره وفي الطريق العام إلى ذلك المكان هناك أناس راجلون وآخرون راكبون على الدواب بعضهم يجر خلفه حمارًا محملا بفواكه حمراء وخضراء لم أرها من قبل، وهناك نساء يحملن على رؤوسهن قِفاقا مكدسة فيها بضاعة ومغطاة، هناك أناس من المدينة وآخرون من الريف والبادية وجميعهم أناس طيّبون يردون السلام ويتبادلون الأخبار وأذكر أنّ صاحب حمولة الخضار والفواكه ناولني حبة فاكهة حمراء بعد أن سلّم على أبي فأخذتها ولم أعلم ماذا أفعل بها، وبعد قليل وأنا في غفلة من أمري التهمها جمل كان يقف إلى جانبنا من يدي وكم كانت حسرتي عليها كبيرة.

عندما دخلنا سوق الحصن كان علينا أن ننيخ الجمل خارج السوق، وهناك مواقف عامة للجمال تحت أشجار النخيل الوارفة، ومواقف أخرى للحمير، ويدير هذا المرفق من السوق رجل يسمى خليفة، وما عليك سوى أن تعطيه خطام الجمل أو الحمار وهو يقوم بربطه بإحدى أشجار النخيل ويقدم خدمة إطعام الدواب في هذا الموقف مقابل مبلغ من المال، وعرفت أن والدي عليه حساب قديم للرجل من جراء توقيف الجمل في مرات سابقة ووعده بكامل الحساب عند الخروج من السوق.

دخلنا السوق وكان عبارة عن صفين متوازيين من المحلات المبنية من الطين يفصلهما ممر ضيق، وفيه زحمة شديدة، رأيت لأول مرة بضائع من كل الأشكال.. الملابس..الأغذية، وهناك وفي وسط الطرقة رجل يحلق للناس في الخارج وهم يجلسون القرفصاء على الأرض وأكثر زبائنه المصطفين في الدور ليسوا من الريف أو البادية، زار أبي صاحبه التاجر جابر، وهو تاجر حبوب، أخبرني والدي فيما بعد أنّه ليس من ظفار.. هو رجل طيب مازحني بكلمات لطيفة وأهداني قطعة من الحلوى العدنية الطيّبة المذاق، وبعد حديث طويل أخذنا من عنده حاجتنا بالدين كما أنّه أقرض أبي مبلغا آخر، وأهداني قميصا أحمر جميلا لبسته على الفور.

وفي وسط السوق قابل أبي رجل من قبيلتنا فوقفا معا يتحدثان طويلا وفي غضون ذلك أتى حارسان يحملان بندقيتا كند، ويلبسان محازم مليئة بالرصاص ويظهر عليهما الخيلاء والزهو بالنفس، وفجأة قبضا على والدي والرجل الذي معه، وقالا أنتما مطلوبان للوالي.. ذهبنا معا وفي آخر السوق كانت هناك برزة الوالي دخلنا نحن الثلاثة يتقدمنا أحد الحارسين والآخر من خلفنا وكم كنت قلقا وخائفا لكن أبي كان يربت على كتفي ويقول لا تخف هذا الوالي والكل يذهب عنده. أمّا الرجل الآخر من قبيلتنا فكان متوترا وخائفا ويتكلم بكثرة ويسب وكان والدي يقوم بتهدئته.

كانت برزة الوالي مكتظة ولم نجد مكانا للجلوس فوقفنا عند الباب بينما كان الوالي جالسًا على إحدى ركبتيه، متكئا على بندقيته، ومردفا محزمه وخنجره في صدر البرزة، وتظهر عليه علامات الهيبة والوقار، وفي تلك الأثناء ذهب الحارس الأول وهمس في أذن الوالي، وفي هذا اللحظات سأل الوالي أبي مستنكرا (أين الزكاة؟) أنتم موقوفون حتى تأتي زكاة قبيلتكم كاملة.. حاول الوالد التماس العذر وطلب الإعفاء من السجن لكنّ الأمر قُضي، زاد سخط الرجل الآخر من قبيلتنا وأرغى وأزبد، وارتفع صوته وأخذه الحارس بعيدًا عنّا. أمّا الحارس الآخر فكان فيه شيء من الرأفة فقال لأبي صرف هذا الولد مع أحد من هنا قبل أن اصطحبك للسجن.. أخذني أبي إلى آخر الطرقة والحارس وقف بعيدًا عنّا وقال لي: اسمع يا بني أنت رجل شجاع، أنا الآن لا بد أن أظل مع الوالي حتى بكرة وأنت عليك الذهاب مع أحد من السوق والعودة مع الجمل إلى الريف كم كان ذلك الخبر مزلزلاً فبكيت ورفضت وقلت كيف أعرف الطريق.. أنا لا أعرف أحدًا هنا..

وفي تلك الأثناء مرّ علينا رجل طويل ذو وجه مشرق جميل وأنا أبكي بحرقة بدون أن أصدر صوتا.. الدموع فقط كانت تنهال على وجهي؛ حتى أنّها بللت القميص الأحمر الجديد، قال الرجل ما بالكم؟ أخبره أبي بالأمر فاصطحبنا معه إلى الوالي وعند دخوله البرزة رحّب به الوالي وأجلسه في صدر المجلس، وهنا قال ذلك الشيخ للوالي كم تبقى من زكاة قبيلة هذا الرجل قالوا له ثلاثة أبقار وسبعة أغنام وتسعة تنك سمن، فقال أنا أكفل الرجل أسبوعا وإن لم يحضر الزكاة أدفعها للحكومة من مالي، فوافق الوالي، وهنا خرج الشيخ إلينا وقال اذهب أنت وحاول أن تدبر الزكاة المتبقيّة وإن لم تتمكن أخبرني قبلها بيوم ولا تهتم، وأعطاني ريالا وقال لي الآن اذهب مع أبيك، فقال له والدي لقد تمّ سجن رجل آخر من جماعتنا قبل قليل لذات السبب. فكلم الشيخ رئيس الحرس الذي سمع أمر الوالي فأطلق صاحبنا الذي خرج على الفور مسرعًا من السوق وأظنه لن يرجع له قريبًا.. قال محمد (رحم الله هذا الشيخ لقد أزال كدرًا وهمّا كبيرًا عنّي)..

استودعتكم الله موعدنا يتجدد معكم بإذن الله.

حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان.

alikafetan@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك