مجتمعات الاختلاف المؤذي

د. سيف المعمري

تزخر المجتمعات الإسلامية والعربية هذه الفترة بالاختلاف والصدام ومحاولات إقصاء الآخر، سواء كان فرداً أو جماعة أو مؤسسة أو دولة، ويحدث ذلك لأسباب كثيرة، وكأنّ الخلاف قدر إسلامي محتوم، وكأن هذه المجتمعات غير قادرة على التعلم من مبادئ الإسلام الذي أرسى مبادئ وقيم الاختلاف، وأكد أنها سنة كونية وطبيعة إنسانية، وهي أيضا غير قادرة على التعلم من المجتمعات الإنسانيّة المعاصرة التي جعلت من قبول الاختلاف أمرًا طبيعيا لا يتطلب الإقصاء أو القتل أو القطيعة أو معاقبة أناس أبرياء لا دخل لهم بما يجري من أحداث سياسية.

ما يجري بشكل يومي يعمق الفجوة بين هذه المجتمعات ومبادئ دينها التي تظهر خطاباً شرسا في الدفاع عنه، كما أنّ هذا يعمق الفجوة بينها وبين بناء مجتمعات المواطنة التي يحترم الإنسان فيها لقيمته وعمله لا لعائلته أو وظيفته أو مكانته في الهرمية السياسية، وفي ظل توافر التربة التي تنبت فيها النباتات الإقصائية لا نستغرب أن يطالب عدد كبير من الناس بإقالة وزير إعلام في دولة مجاورة نتيجة استضافة هذه القناة لمحلل سياسي له آراء مختلفة عن تلك التي يؤمنون بها، فهل يعقل أن يكون الإعلام منبرا للذين يتفقون معنا فقط، ماذا لو كنا مخطئين؟ ماذا لو كنا نحتاج لرأي المخالفين كما نحتاج إلى رأي المؤيدين؟ وهذا نائب برلماني في دولة شقيقة يقف للمطالبة بإبعاد عُمان من مجلس التعاون الخليجي لأنّها مختلفة في مواقفها السياسية تجاه بعض القضايا الإقليمية، فهل يعقل أن يقوم اتحاد خليجي على رفض قيمة الاختلاف، على إلغاء الآخرين، على رفض التنوع في المواقف؟، والغريب أنّ هؤلاء الذين يحملون عقلية إقصائية لا يزالون يروجون لفكرة "المواطنة الخليجية" التي تبدو عملية ذات منافع للجميع، لكن ما لم تقم على أساس متين يحترم فيه التنوع لا يمكن ترجمتها إلى واقع، لأننا لا نزال مفتونون باقصاء الآخر، وعلى التصلب في الرأي، لا نؤمن أن هناك رأيان أو ثلاثة أو أربعة، وأنّ الأفضل هو الاستماع لكل أصحابها، بدلا من فرض أحدها فقط، ما هكذا نؤسس لمجتمعات متقدمة، ولا هكذا نؤسس للتعاون والتكاتف، يمكن أن نستمر معًا ليس بالضرورة أن يُقصى أحدنا.

إنّ الثمن الفادح لإسقاط قيمة الاختلاف من كل القواميس السياسية والدينية والفكرية يدفعه الإنسان الذي لا أحد يتذكره ويسأل عن الواقع الذي يعيشه، إلا في لحظة الخلافات السياسية التي تقود إلى اقتلاع أسر من أماكنها التي كانت تقيم فيها لسنوات فيها مدرسة أبنائهم، وأصدقائهم، وفيها أماكن عملهم، وفيها كل الخطط التي وضعوها لصنع مستقبلهم، هل لا تزال توجد دول تجعل الناس الأبرياء أداة ضغط سياسية سواء كان ذلك مبررا أو لم يكن مبررا؟ تحدث هذه المفارقة الغريبة جدا هذه الفترة حيث تعمل بلدان إسلامية على إبعاد قسري لأسر عربية مسلمة في وقت لا تقوم بذلك بلدان غربية تعرضت لإرهاب عنيف، لأنّها آمنت بقيمة الاختلاف وبحق الإنسان في الكرامة والحماية والحفاظ على حياته، فهذه بلجيكا التي طالتها يد الإرهاب وبددت سكينتها التي دامت كل هذه السنين، وأصابت سكانها بصدمة كبيرة جدا، لم تقم بإبعاد الجالية الإسلاميّة العربية منها، رغم وجود أصوات تنادي بذلك، وتعمل جاهدة لتحقيقه.

إنّ هذه المقارنة تكشف لنا عن حجم المسافة بين مجتمعات يمكن أن أطلق عليه "مجتمعات الخلاف المؤذي"، ومجتمعات أخرى أسميها "الاختلاف الراقي". وتكشف لنا الدرجة المتقدمة التي بلغتها هذه المجتمعات في إرساء القيم الإنسانية الرفيعة، وتربية الناس عليها، وتوضح لنا الوضع الخطير الذي تعيشه مجتمعات يتربى فيها الإنسان يوميًا على إقصاء الذين يختلفون معه.

حقيقة لا أعرف متى ستصبح هذه المجتمعات مجتمعات داعمة للاختلاف، رافضة للقاعدة "البوشية "من لم يكن معنا فهو ضدنا"، لأنّها قاعدة لا يمكن أن تقود إلى بناء مجتمعات إنسانية مستقرة، أو مجتمعات متسامية حول الخلافات، ولا تتوقف عندها أو تضخمها وتجعل منها أداة للانتقام، وقتل روح الإبداع، وإعاقة المشروع التنموي الحضاري الذي يحتاج إلى جهد الجميع بغض النظر عن مواقفهم وآرائهم، فالرأي السديد لا يمكن أن يهدم بلداً بل يقود إلى بنائها، والاختلاف رحمة إلهية وكما قال الحق سبحانه وتعالى" وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)، أي جعلهم على ملة واحدة ودين واحد، ولكن حكمة الله سبحانه وتعالى أن يجعل الاختلاف محركا للبناء الحضاري، فلماذا يصر البعض على تجاهل مثل هذه الآيات وما تتضمنه من معاني تؤسس لقيمة الاختلاف؟ هل يعني هذا التجاهل أنّهم لم يدركوا بعد الثمن الباذخ الذي نتج عن الاختلاف المؤذي؟ أم أنّه لا يعنيهم إلا التشبث برأيهم الضيق حتى لو دمرت هذه المجتمعات بأكملها وجردت من كل ثرواتها، لكن يبدو أنّ نيرون لن يكون الأخير في التاريخ الإنساني الذي يحرق بلدا بأكمله من أجل رفض الرأي الآخر، وستظل المرآة تُخطِّئ كثيرين حين ينظرون فيها ولا يرون إلا أنفسهم.

في ظل هذا الواقع تبدو الحاجة ماسة جدا لتعليم قيمة الاختلاف وآدابه، ومهاراته، من أجل الخروج من هذا الوضع الخطير جدا الذي قاد إلى تعطيل التنمية في المنطقة، إمّا بغلق فرص الاجتهاد التنموي وإقصاء الكوادر البشرية المتميزة أو بإقصاء فرص التكتل الإقليمي المبني على مبدأ التنوع في الوحدة، والتعليم يتطلب تقديم نماذج وممارسة واقعيّة عملية في عمل المدارس والجامعات التي لا يصح أن تظل متفرجة دون أن تقدم مناعة وحصانة لهذه الأجيال الشابة من أن تتأثر "بالتلوث الفكري والسياسي" الذي يخيم على المنطقة، كما أنّه لا يصح أن تصبح هذه المؤسسات أماكن لإنتاج الإقصاء، ولو كان هذا واقعها، فهي تصبح مؤسسة تربوية خطرة جدًا على المجتمعات لأنّها تقود إلى تربية أفراد لا يعرفون إلا الرفض والإقصاء بدلا من أن تقود إلى تربية قيم الاختلاف والجدل وتقبل الرأي الآخر، وتصبح المعرفة سلطة مطلقة لا يملكها إلا المدرس أو المحاضر، ويخرج هؤلاء إلى المجتمع؛ وبدلاً من أن يقوموا بالنهوض به، يصبحون جزءًا ومحركًا أساسيًا لخلافاته.

لقد قال فولتير يوما لجان جاك روسو حين قررت السلطان السويسرية مصادرة كاتبه "العقد الاجتماعي" كلامًا يستحق أن نختم به هذا المقال، ويستحق أن نتأمل فيه مرارا، قال له:" إنني لا أومن برأيك لكني على استعداد لأن أموت دفاعًا عن حقك في أن تبديه وتعلنه على الناس"، أين نجد اليوم من يقول نفس ما قاله فولتير سواء كان مفكرًا أو مسؤولاً أو سياسيًا، أين نجد من يدافع عن الذين يختلف معهم؟


saifn@squ.edu.om

تعليق عبر الفيس بوك