محطات: طفل الجدار.. الأسهل الأصعب!!

المعتصم البوسعيدي

كان في الثامنة من عمره، يحاول تسلق جدار ملعب "لومير" معقل أياكس أمستردام النادي الهولندي الشهير، متعلقًا بحب أبيه "البقال" ومتتبعًا خطوات أمه "عاملة النظافة" بالملعب نفسه، ركل الكرة في العاشرة مع قُرناء سنه، فشاهده كشاف المواهب الذي نفتقده كثيرًا في ملاعبنا الصغيرة منها والكبيرة، وفي شواطئنا وحاراتنا، أقول شاهده وضمه لنادي "المحاربين" ولم يكن يعلم بأن القدر يحمل أعظم لاعب للكرة الهولندية، إنه "يوهان كرويف" الجناح الطائر ذو السرعة والمهارة والإتقان في التسديدات المقوسة، تعملق منذ صغره وشارك في أول مباراة مع الفريق الأول بأياكس ضد "ليفربول" الإنجليزي مطلقًا العنان لرحلة حافلة بالإنجازات والأهداف ودموع الفرحِ والحزن في آن.

عند ذكر "يوهان كرويف" تتبادر للأذهان الكرة الشاملة بالرغم من أن تأسيسها تاريخيًا -حسب بعض المصادر- ينسب "للمجريين" إلا إن مملكة الأراضي المنخفضة جسدتها في أبهى صورة عبر المدرب الشهير "رينوس ميخلز"، أما "كرويف" فيعتبر بمثابة عّراب الكرة الشاملة وناسج خيوطها البديعة ومحور إنطلاقتها لاعبًا كان أم مدرب؛ "فكرويف" كرس حياته لتطوير الكرة وكافحَ من أجل فلسفته الشهيرة: "كرة القدم بسيطة، لكن لعبها ببساطة هو أصعب ما في الأمر"!! وفي حياة "كرويف" تتطغى أخبار إمتهانه للكرة أكثر من أي شيء آخر، ذلك بسبب -كما ذكرنا- تكريس حياته لخدمة كرة القدم، لقد تألق كلاعب وأظهر عن إمكانيات فذة للغاية وفجر ثورة الجناح الطائر مع برشلونه والأياكس على وجه الخصوص والهيمنة الأوروبية في سبعينيات القرن الماضي، ثم كمدرب في الثمانينيات والتسعينيات مع كلا الناديين أيضًا، أما المنتخب وعلى الرغم من عدم تحقيقه للألقاب بقميص الطواحين لكن إطلالة الدهشة والإبهار رصعَّ مجده الكبير وخلدَّ رقم (14) رمزًا للفن الكروي الرفيع.

سجل كرويف 291 هدفا مع الأندية و33 هدفا مع المنتخب، وألقابه كثيرة تجاوزت العشرين لقب كلاعب ووصلت لـ14 لقب كمدرب، مع تحقيقه وصافة مونديال 1974 إثر خسارته على يد القيصر بيكنباور ورفاقه، علاوة على ثالث أوروربا 1976، كما إنه نال ألقاب فردية متعددة أبرزها جائزة أفضل لاعب أوروبي ثلاث مرات، ويعد من بين أفضل عشرة لاعبين في التاريخ، وقد أضاف مع هذه الإحصائيات الرقمية سحر أدائه الشمولي وقدرته على اللعب المتقن لكافة المراكز تقريبًا، ونجاحه مع كل الفرق التي تقمص ألوانها، وأنهى حياته الكروية كلاعب مع "فينورد" الهولندي عام 1984، أما كمدرب ففلسفته التدريبية مزجت بين الكرة الشاملة "والتيكي تاكا" وقد صنعَ فريقًا أُطلق عليه "الفريق الحلم للمدينة الكتالونية" ضم كوكبة من النجوم والأساطير الكروية؛ كما انه كان يؤمن باللمسة الفردية في منظومة اللعب الجماعي، وكيف لا؟! وقد كان هو صاحب اللمسة الجمالية للكرة الهولندية الشاملة.

عُرف عن "كرويف" ولعه بكرة القدم لدرجة أنه سماها إحدى أثنتين بنقاط ضعفه؛ حيث يقول: "في الحياة، لدي نقطتا ضعف: التدخين وكرة القدم، كرة القدم منحتني كل شيء في الحياة، بينما أوشك التدخين على انتزاعها مني" وقد فعلت فعلتها، وقد سبق أن خضع في العام 1991 لجراحة القلب المفتوح، إنه درس مجاني من حياة هذا النجم للجميع وليس للرياضيين واللاعبين فقط، تعرض كرويف في فترة مهمة من حياته لتهديد بالقتل قبل كأس العالم 1978 في حالة سفره للأرجنيتن مما أضطره للاعتزال، لكنه عاد بعد سنة عن قراره ولعب بالدوري الأمريكي، وكرويف الإنسان أيضًا لا ينسى ذاته؛ فقد كان ذكيًا ومفاوضًا صعب مع الأندية وصفقة انتقاله لبرشلونه كانت أول الصفقات التي تتعدى حاجز "المليون"، استقر ببرشلونه وأسس شركة لبيع المعدات والملابس الرياضية، الأمر الذي يعني أهمية اشتغال اللاعب على ذاته بما يتواكب مع نجوميته حتى يحافظ على نفسه خلال ممارسته للعبة أو بعد الاعتزال، وهذا ما ينقص رياضيينا في أغلب الأحوال.

الكرة الشاملة غيَّرتْ مفاهيم كثيرة في عالم كرة القدم واعطتها رونق خاص، وبات فريق مثل برشلونه يقدم أجمل العروض الكروية ويبرز أساطيرة الكرة العالمية، لقد كان موضوع "المساحة وخلقها" جوهر الكرة الشاملة ويشدد "باري هولسوف" مدافع أياكس السابق وزميل "يوهان كرويف" على هذه النقطة بقوله: "كرويف كان دائمًا يتحدث عن أين يجب على الشخص الركض وأين يجب عليه الوقوف، ومتى يجب عليه التحرك" هذا كرويف" وهو لاعب فكيف به وهو مدرب؟! لقد وصفوه بالعبقري والمبتكر، إن نظرية الكرة الشاملة أسقطت سطوة منظومة أخرى كانت ذات سيادة "الكاتيناتشيو" الإيطالي هذه المنظومة الدفاعية التي سقطت أول مرة في نهائي الكأس الأوروبية 1972 بقيادة "كرويف" ويومها عنونت الصحيفة الهولندية "ألخمين داخبلاد" بعنوان "لقد تداعت منظومة إنتر ميلان، تم القضاء على الكرة الدفاعية".

عبارات كثيرة مجدت مسيرة "يوهان كرويف" أكان لا زال على الثرى أم وهو راقد في مثواه الأخير مودعًا العالم وعائلته المكونة من زوجة وأبنتين وولد، لقد خسر رهان المرض "سرطان الرئة" لكن بصمته على حياة كرة القدم ستظل باقية كحال خسارته كأس العالم الذي لم يوقف تألقه ومثابرته وعمله، ويكأد يتفق عليه الجميع بأنه أفضل من جمع بين نجومية اللاعب والمدرب، وهو أحد مؤسسي أكاديمية لاماسيا الكتلونية الشهيرة التي تخرج منها نجوم الحقبة الحالية للبارسا "ميسي، تشافي، إنيستا" وحظي كرويف بتكريم دائم وبمناصب فخرية في النادي الكتلوني كرئيسًا ثم مستشارًا، ووصفوه "بانشتاين" كرة القدم "وأفلاطونها"، قال عنه الجوهرة بيليه: "خسرنا رجلاً عظيمًا وعلينا مواصلة مشواره في البحث عن الكمال" فيما نعاه الملك الهولندي "لقد خسرت صديقًا، ولكن هولندا خسرت رجل عظيما ومفكرًا كرس حياته للارتقاء بكرة القدم إلى أعلى مستوى ممكن"، لقد قفز "كرويف" الطفل جدار "لومير" ورأى إن كرة القدم بحاجة للتغيير؛ فكان إن طارد حلمه حتى تحقق، ثم ترجل عن الجواد ليمتطيه آخرون من تلاميذه وممن يؤمنون بفكره وفلسفته الكروية "الأسهل الأصعب".

تعليق عبر الفيس بوك