أربعة أيام مع جورج طرابيشي

فايزة مُحمَّد

الحديثُ عن المفكِّر الرَّاحل جورج طرابيشي صعب، سواء في جانبه الفكري الذي كان خصبا للغاية أو عن أوضاع النفسية السيئة التي كان يعيش فيها، خاصة وأنه كان يعيش في شبه عُزلة منذ عدة سنوات، لعدة أسباب كان أبرزها الحرب في سوريا.

وسأتحدث في هذا المقال عن زيارة جورج طرابيشي إلى السلطنة في مارس عام 2012، فلها ذكرى خاصة في قلبي عن هذا الرجل، الذي كنّا نقرأ ترجماته وكتبه، ولكننا عرفنا في هذه الزيارة -إضافة إلى ثقافته الموسوعية- تواضعه وأخلاقه، وعدم اهتمامه بالأضواء وابتعاده عنها.

بعد انتهاء إحدى الأمسيات في صالون سبلة عُمان الثقافي، كنا جلوسا نتحدث في بعض المواضيع المرتبطة بالصالون، فطرح بعض الأخوة اقتراحا لاستضافة المفكر جورج طرابيشي؛ ليكون ضيفا على الصالون، واستبعد البعض هذا الاقتراح؛ لصعوبة تحققه من وجهة نظرهم؛ لأن طرابيشي قاطع المحاضرات والأمسيات الثقافية، منذ عدة سنوات تصل إلى العشر؛ لذلك رأوا صعوبة موافقته، بل استبعد البعض الآخر حتى الحصول على جواب منه، سواء بالسلب أو الإيجاب، ولكن موسى الفرعي الذي كان حينها مديرا عاما لسبلة عمان حسم الموقف، بقوله: من يستطيع منكم إقناع طرابيشي بزيارة السلطنة؛ ليكون ضيفا قادما على صالون السبلة؟ فأجبته قائلة: أنا أستطيع ذلك. كان تحديا كبيرا بكل معنى الكلمة؛ خاصة وأن جورج طرابيشي معروف عنه الابتعاد عن وسائل الإعلام والأضواء، فالرجل مشغول ببحوثه وترجماته التي كرّس لها كل حياته، وقضى جزءا كبيرا من عمره في الرد على أفكار الدكتور محمد عابد الجابري، في كتابه "نقد العقل العربي"، خاصة الجزأين الأول والثاني منه.

وبعد عدة أيام من هذا اللقاء، تواصلتُ هاتفيا مع طرابيشي، وقلت له: إننا من المعجبين بأفكارك التي تطرحها في كتبك ومقالاتك، ونرغب في استضافتك في صالون سبلة عمان الثقافي، فردَّ عليَّ بأنه يشكرني على هذه الدعوة، ولكنه اعتزل المحاضرات منذ عشر سنوات، لذلك يعتذر عن الحضور، ولكني لم أيأس، فأرسلت إليه رسالة على بريده الرقمي، قلت له فيها: إن هذه الدعوة ليست باسمي الشخصي أو صالون سبلة عمان الثقافي، وإنما نيابة عن المثقفين العمانيين الذين يتابعون أعمالك أولا بأول، خاصة ردودك على الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه "نقد العقل العربي"، ولكن الرجل صارحني بأنه لا يستطيع الحضور بسبب أحداث سوريا التي كانت في بداياتها، وقال: إنه يعيش أوضاعا نفسية سيئة بسبب ذلك؛ لذا فإنه لا يستطيع أن يقدم محاضرة تليق بالمثقفين العمانيين الذين ينتظرون منه كل جديد.

بعد فشل المحاولتين السابقتين، قُمت بكتابة رسالة طويلة كتبت له فيها نبذة عن التاريخ العماني، وأن الزيارة تعدُّ فرصة له للتعرف على عمان ومثقفيها وكُتاّبها، فرد علي برسالة لطيفة عبر فيها عن شعوره وامتنانه بهذا الاهتمام وشكرني على ذلك، وأذكر أنه قال: إنه لا يملك أمام هذا الإصرار سوى الموافقة.

وَصَل المفكر جورج طرابيشي إلى مطار مسقط الدولي الساعة الثانية عشرة والنصف فجر يوم الخميس 22 مارس 2012م، وكنت ضمن المستقبلين له مع الأستاذ موسى الفرعي مدير عام سبلة عمان، والكاتب صالح البلوشي، وفوجئنا في المطار بوجود بعض الشباب المعجبين بطرابيشي، وكانوا قد علموا بوصول المفكر الراحل في هذا الوقت، وأذكر منهم الكاتب ناصر الكندي ويحيي الراهب.

وفي يوم السبت 24 مارس، قدَّم جورج طرابيشي محاضرة عن موسوعته في "نقد نقد العقل العربي"، وأدار الأمسية بنجاح الباحث العماني محمد رضا اللواتي، وحضرها جمهور غفير جدا امتلأت بهم قاعة الشركة العمانية للاتصالات بالموالح، وحضرها أيضا بعض المعجبين بأفكار المفكر الراحل من السعودية والإمارات جاءوا خصيصا لحضور هذه المحاضرة.

لم تكن زيارة جورج طرابيشي إلى السلطنة تقتصر على إلقاء محاضرة فقط، وإنما تضمن البرنامج أيضا زيارة بعض الشخصيات الثقافية والتعرف إلى المثقفين العمانيين، وأذكر أنه قام بزيارة إلى جريدة عُمان ومجلة نزوى، والتقى فيها الأديب سيف الرحبي، وكذلك معالي الدكتور عبدالله الحراصي رئيس الهيئة العامة للإذاعة والتليفزيون، إضافة إلى زيارة إلى وزارة التراث والثقافة، التقى فيها سعادة سالم المحروقي وكيل الوزارة لشؤون التراث، وأخرى إلى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، التقى فيها سعادة الشيخ أحمد بن سعود السيابي أمين عام مكتب الإفتاء، وقد دار النقاش حول تاريخ الإباضية والتعددية المذهبية في السلطنة، والتجربة العمانية في ترسيخ مبدأ التعايش في المجتمع بين المذاهب الإسلامية المختلفة.

وفي اللحظات الأخيرة التي كان جورج طرابيشي يودِّع فيها السلطنة، قال في المطار: إنه يحب هذا البلد جدا، ووعدنا بزيارة أخرى، وكان المفترض أن تتحقق في نوفمبر الماضي؛ ولكن يبدو أن القدر كان له رأي آخر، حيث غادر دنيانا بعد أن ترك في قلوبنا ذكريات جميلة وصورًا لا تنسى من التواضع والأخلاق العالية، فرحم الله طرابيشي.

fayza Mohammed

تعليق عبر الفيس بوك