استعادة تدمر يضع الرياض أمام أصعب الخيارات

عبيدلي العبيدلي

اعتبرَ الرئيسُ السوري بشار الاسد -وهو محقٌّ في ذلك- "أن تحرير مدينة تدمر يعتبر إنجازا مهما ودليلا على نجاعة الإستراتيجية التي ينتهجها الجيش السوري". ولا يشكل ذلك تغييرا نوعيا عسكريا لصالح قوات نظلم الأسد فحسب، فهو بلا شك سوف ينعكس إيجابيا لصالح ذلك النظام في موازين القوى السياسية التي ستلتقي مجددا في خلال الأشهر القليلة المقبلة لاستكمال جولات الحوار بشأن مستقبل سوريا.

وتنبعُ أهمية هذا التحول الأساسية من تزامنه مع مجموعة من الأحداث الأخرى المرافقة الإقليمية الشرق أوسطية والدولية التي تشكل في مجملها بوادر انقلاب في موازين صراعات القوى في هذه المنطقة، لصالح المحور السوري-الروسي-الإيراني، على حساب الجبهة الأخرى المناهضة لها التي تتشكل أساسا من التحالف الأمريكي-السعودي.

فعلى المستوى السوري المحض، يمارس وقت إنجاز هذه المهمة دورا في غاية الأهمية؛ كونه يأتي بعد فترة قصيرة جدا من إعلان الرئيس الروسي بوتين عن سحبه لقواته المشاركة إلى جانب قوات الأسد في حربها على الأطراف المناوئة له، بمن فيهم الأطراف غير الإرهابية (الداعشية)؛ الأمر الذي يعزز من مواقع الأسد في أية مباحثات قادمة.

أمَّا على المستوى الإقليمي، فمن الخطأ القاتل إسقاط الزيارة شبه المباغتة التي قام بها الرئيس الإيراني حسين روحاني إلى باكستان، على أنها هي الأخرى نقلة نوعية، لكنها هذه المرة سياسية، لصالح التحالف السوري-الإيراني-الروسي؛ إذ تسعى إيران من خلال هذه الخطوة للمزاوجة بين التحولات في موازين القوى العسكرية مع ضغوطات القوة الناعمة. وما يدعو لهذا التصور الإستراتيجي هي تلك الدعوة الصارخة التي أطلقها روحاني خلال تلك الزيارة، التي وجهها إلى الرياض مُدَّعيا فيها أنَّ بلاده "تسعى لطي صفحة الخلافات مع المملكة العربية السعودية"، ومن ثم "استعداد بلاده لإقامة حوار مع المملكة، (دون أن ينسى الإشارة بوضوح إلى أن) الطريق ليس مُعبَّدا بعد".

وعلى نحو مواز، وعلى الصعيد الدولي، هناك التقارب الواضح بين موسكو وواشنطن، الذي بدت معالمه واضحة للعيان خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكي كيري الأخيرة إلى موسكو، والتي أعلن خلالها صراحة عن "تقارب في الموقفين خاصة بشأن سوريا". هذا التقارب نجم عنه اتفاق روسي-امريكي على "دفع عملية التفاوض السوري، وعلى تعزيز الهدنة في سوريا، وعلى الخطوات المقبلة لمواجهة الإرهاب في ذلك البلد". لم يرد في البيان أية إشارة من قريب أو بعيد بشأن مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد، الأمر الذي يعني موافقة الطرفين ضمنيا على استمراره في السلطة، ما لم تطرأ ظروف مفاجئة ليست في الحسبان.

وفي الوقت ذاته، أعلن المرشح المحتمل للحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسية الأمريكية دونالد ترامب "أنه سيدرس مسألة تعليق المشتريات الأمريكية للنفط من السعودية طالما لم تقدم الرياض قوات لمحاربة (داعش)". عزز من صدق نوايا ترامب في مواقفه من الرياض، ما أدلى به من حديث لصحيفة "نيويورك تايمز" في رده على سؤال حول ما إذا كان سيجمد، في حال فوزه في الانتخابات، "شراء النفط من حلفاء الولايات المتحدة، إذا لن يقدموا قوات لمحاربة تنظيم (داعش) على الأرض، قال: الجواب، على الأرجح، نعم)".

هذه التطورات الرئيسية، وأخرى غيرها ثانوية، كتلك التي تنضح من محادثات جنيف بشأن مستقبل سوريا، تضع الرياض أمام مجموعة من الخيارات الصعبة التي يمكن سرد الأهم بينها في النقاط التالية:

1- أن تتراجع الرياض من مشروعاتها العربية، بما فيها تلك المجاورة لها، وتنكفئ نحو الداخل من أجل البناء وتعزيز الأوضاع الذاتية، على الصعد كافة: الاقتصادية والسياسية، بل وحتى العسكرية. ومثل هذه الخطوة هي تحول نوعي في السياسة التي تبنتها الرياض في الفترة الأخيرة، وتتطلب إعادة هيكلة جذرية ليس لإطار المشروع السعودي الخارجي بحسب، بل حتى الهياكل والبنى الداخلية.

2- أن تبادر إلى تعزيز المحور السعودي-الأمريكي-الأوروبي-العربي؛ من خلال تقديم بعض التنازلات للطرفين الأوروبي والأمريكي، يرافقها على نحو مواز تقديم مساعدات مالية للأطراف العربية المنضوية تحت مظلة هذا المحور مثل مصر. هذا يقتضي من الرياض إعادة النظر في خطابها الإعلامي، وعلى نحو مواز لب علاقاتها العربية والدولية.

3- أن تسارع الرياض إلى مدِّ جسور مباشرة مع طهران، ليست بعيدة عن العين الروسية، لبدء محادثات ماراثونية، تدور حول جدول أعمال مثقل بالقضايا المتفجرة التي تحتاج إلى جهود جبارة متواصلة من أجل تهدئة جبهاتها الساخنة قبل الاتفاق على الصيغة النهائية لمستقبلها. وهنا ينبغي على الرياض اكتساب مهارات عالية تمكنها من الاستدارة السريعة 180 درجة، دون أن تفقد مهاراتها ومرونتها التي تتمتع بها في نسج علاقاتها مع حلفائها التقليديين الحاليين، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة.

4- أن تلجأ الرياض إلى استخدام أقوى الأوراق التي تملكها، وهي جبهة الدول الإسلامية. ربما يكون طريق تنسيق جهود هذه الكتلة في جبهة واحدة وعرا ومحفوفا بالمخاطر والمطبات، لكن خيار التحالف معها هو الأكثر قربا من الرياض من باقي الخيارات الأخرى.

جميع هذه الخيارات صعبة ومعقدة، وتتطلب جهودا مضنية، إن شاءت الرياض تخفيف خسائرها في هذه المرحلة من أجل الانطلاقة نحو إستراتيجية هجومية تعيد الأمور إلى صالح محورها الذي لا بد لها من التفكير في الدول التي تريدها أن تنضوي تحت مظلته.

الخيارات صعبة، لكنها ليست مستحيلة متى ما تم الاستعداد لها على نحو جيد، وفي وقت مبكر، ووفق إستراتيجية واضحة المعالم.

تعليق عبر الفيس بوك