أوركسترا فلسطين للشباب.. سيمفونيّة المقاومة تطلق "صرخة ثائر" من أرض التسامح والسلام

د. ناصر بن حمد الطائي*

تمثل استضافة أوركسترا فلسطين للشباب واحدة من المبادرات الإنسانيّة والوطنية والفنية لدار الأوبرا السلطانية، فكما عودتنا دار الأوبرا السلطانية على احتضانها للموسيقى الهادفة لمارسيل خليفة وماجدة الرومي ولحسين الأعضمي ولأوركسترا الشباب الأفغانية، فإنّ هذه الأمسيات تُعمّق الرباط الفني بحب الوطن وتٌشّكل جسراً للتواصل بين الشعوب محفورًا بجمال النغم وعذوبة الألحان.

وتأسست أوركسترا فلسطين للشباب في عام 2004 بمبادرة من معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى بهدف توحيد جهود الموسيقيين الفلسطينيين اينما كانوا، رغم الحصار والدمار، حتى يقدموا رسالة سلام ويغرسوا بذور الهوية في نفوس شعب يرزح تحت وطأة استعمار غاشم. وتعد الأوركسترا الفلسطينية للشباب إمتداداً وطنياً وأدبياً وفنياً لموسيقى أحمد قعبور ومارسيل خليفة والمدرسة الرحبانية، ولأشعار محمود درويش وسميح القاسم، ولرسومات ناجي العلي، ولكتابات غسان كنفاني وجبرا ابراهيم جبرا. والأوركسترا الفلسطينية للشباب هي "صرخة ثائر" وصوت "حنظلة" المخنوق الذي يُؤكد بصمت أنّ الوطن لا يموت وأن النصر قادم لا محالة.

لقد أثبتت الأوركسترا في السنوات الماضية أن الموسيقى والفن هي أحد أشكال المقاومة الباسلة للشعب الفلسطيني الصامد، هذه المقاومة التي تحفر بأيديها الخنادق وتزرع الأمل وتحافظ على الهوية الفلسطينية في وقت يحاول فيه الكيان الصهيوني مسح هوية الشعب الفلسطيني فيسرق "الدبكة" و"الحمص" و"دبس العنب" و"الدوالي" ويغتصب الأرض ويبني جداره العنصري على أرض السلام فينشر الحرب والخراب والدمار بين شعب أعزل.. يُغيّر الاحتلال ملامح وطن ويُهجّر شعبه ويمارس عليه أبشع أنواع الحصار الأبدي. وكما أوضح السفير الفلسطيني المعتمد لدى السلطنة، سعادة أحمد عباس رمضان، أنّ النضال ضد العدو الإسرائيلي ليس فقط في الجانب العسكري والحربي، وإنّما يشكل كل النواحي الإنسانيّة التي نحياها من جوانب حضارية وعلميّة وثقافية.

إنّ الصراع من العدو هو صراع هوية ومن هنا تأتي الموسيقى كرافد كبير للحفاظ على الهوية والتاريخ الفلسطيني من الضياع. لكننا، كما أنشد مارسيل في أغنية "ياعلي" ذات يوم سنوجّه سكك محاريثنا إلى قلوبهم السمينة الفاجرة" معلنين النصر لكي نُصلي من أجل سلام دائم في بلد السلام.

وغنّت الأوركسترا للفرح وأنشدت لصمود غزة وأعادت إلى الأذهان نشيد "موطني". ولكنها أيضاً لم تنس رسالتها العالمية فقدمت بأداء رائع "افتتاحية الملك لير" للموسيقار الفرنسي هكتور برليوز والمستوحاة من شكسبير والسيمفونيّة الثانية لتشايكوفيسكي والتي تعكس تأثره بالموسيقى الفولكلورية الشعبية.

لكن "زهرة المدائن" هي من خطفت الأضواء والقلوب والدموع.. هذه الملحمة الغنائية للرحبانية والتي قدمتها فيروز بعد حرب 1967 والتي تؤكد على وحدة الأديان في بلد السلام.. القدس التي شهدت ميلاد رسالة المحبة والصفاء لسيدنا المسيح والمدينة الربّانية التي زارها الرسول- عليه أفضل الصلاة والسلام- في ليلة الإسراء والمعراج.. هذه المدينة التاريخية التي دنستها الأيدي الصهيونيّة وقطعت أوصالها وهدمت معالمها على أساس طائفي وديني وعنصري حتى أستُشهد السلام في وطن السلام...

إنّها القدس بهيّة المساكن... وزهرة المدائن حيث تُسافر إليها العيون وترنو إليها القلوب كل يوم بشوق وحزن.. هذه المدينة التي تمتزج فيها المعابد بأجراس الكنيسة معانقة منارات المساجد جنباً إلى جنب.. هناك على ضفاف الحب تلوح القدس عروساً مليئة بالزهور والورد والفراشات في عالم مليء بالحرب والدمار. لكن القدس ستعود، والأبواب ستُفتح، وسيمحو- حتمًا- نهر الأردن آثار القدم الهمجية.

وجاء وداع الأوركسترا الفلسطينية للشباب عميقاً ومعبراً ليس فقط بين المسؤولين وأعضاء الفرقة بل بين أعضاء الفرقة بعضهم بعضا.. فهذه الأوركسترا هي انعكاس للواقع الفلسطيني المحاصر والمشرد والمغترب؛ حيث يقطن أعضاؤها في مختلف بقاع العالم يحملون وثائق وجوازات سفر مؤقتة لحين العودة. وداعنا كان وداعاً لأغصان الزيتون ولحمام السلام ولسنابل الحب المؤمنة بغد أفضل.

ودّعنا أعضاء الفرقة بالدموع شاديّن على أيديهم ومستحضرين لأغنية "أناديكم" لقعبور و"شدوا الهمة" لمارسيل.. فالقدس لنا والبيت لنا.. ومن عُمان- بلد السلام- للقدس تحية حب ووفاء وسلام آت... آت.. آت.

*مستشار مجلس الإدارة للتعليم والتواصل المجتمعي بدار الأوبرا السلطانية

تعليق عبر الفيس بوك