حاتم الطائي
تتعزز مكانة الدبلوماسية العمانية يوماً بعد آخر، وتزداد مصداقيّتها وتتعمّق موثوقيّتها مع كل تحرك جديد يستهدف إحلال السلام، وإطفاء نيران النزاعات والحروب؛ مسترشدة في ذلك بالنهج السامي لجلالة السلطان قابوس ــ أيّده الله ــ والقاضي بالعمل على تدعيم أركان الأمن والسلم الدوليين، ونزع فتيل التوترات حتى يسود السلام العالم، وتنعم شعوبه بالأمان والطمأنينة.
وفي هذا الإطار، تأتي استضافة السلطنة هذه الأيام للقاء التشاوري للهيئة التأسيسيّة لصياغة مشروع الدستور الليبي في صلالة؛ والذي يجري برعاية الأمم المتحدة، تتطلع السلطنة إلى أن يتمخّض عن توافق على مشروع الدستور، من خلال تضمين كافة مقترحات الليبيين حتى يأتي مُعبرًا عن آرائهم، ومُلبيًا لطموحاتهم.. فالشعب الليبي ينتظر صياغة دستوره؛ ليدشّن مسيرته نحو المستقبل بخطى واثقة، تاركًا وراء ظهره الصراعات، ومتغلبًا على النزاعات والخلافات التي ألحقت الضرر بوحدته، ومشروعه التنموي رغم ما حققه من انتصار في ثورته الظافرة، وقناعتنا أنّ الشعب الليبي قادر على قهر الصعاب، وتجاوز العراقيل التي تعوق مسيرته نحو الغد المشرق، ولقد عبّر عن ذلك معالي يوسف بن علوي بن عبدالله الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجيّة بكلمته في افتتاح اللقاء التشاوري للهيئة التأسيسيّة بالقول:" إنّ الشعب الليبي قادر على أن ينتصر على كل الأخطار، وإننا واثقون من تجاوز ليبيا للأوضاع الراهنة، وأنّ الأمم لا تُبنى بالنزاعات، وإنّما بالتسامح، وأنّ الوطن يتّسع للجميع رغم الاختلافات".
إنّ اللقاء التشاوري للهيئة التأسيسيّة لصياغة مشروع الدستور الليبي يمثل علامة فارقة في المسيرة السياسيّة الحديثة للشعب الليبي. والسلطنة باستضافتها لهذا اللقاء تسعى إلى توفير وتهيئة بيئة مناسبة للتشاور والحوار بين أعضاء الهيئة؛ للوصول إلى اتفاق حول مواضيع مختلفة في مشروع الدستور؛ خاصة وأنّ صياغة الدساتير عمومًا تتسم بقدر كبير من الصعوبة، وتحتاج إلى الدقة والاستئناس بالآراء، والاستنارة بوجهات النظر حتى يأتي مبرأ من كل عيب ينال من الإجماع حوله..
ولا شك أنّ توفير المناخ الملائم للتوصل إلى توافق على مسودة الدستور الليبي، يعد إسهامًا كبيرًا من السلطنة، خاصة في ظلّ حرصها على عدم التدخّل، وإتاحة الفرصة كاملة لليبيين للنقاش فيما بينهم؛ وصولا إلى اتفاق حول مشروع الدستور، وذلك تأسيسًا على نهج السلطنة، وانطلاقًا من قناعتها بدورها حيال الأشقاء في مختلف الدول العربيّة.
وليس من قبيل الصدفة أن تستضيف السلطنة هذا اللقاء التشاوري والذي يعد مصيريًا لتحقيق تطلع الشعب الليبي في الاستقرار، فقد عهد العالم منها اتخاذ المبادرات البناءة الهادفة إلى تمكين السلام، وتعزيز الاستقرار؛ ليس في المنطقة فحسب بل على مستوى العالم أجمع. لا سيّما أنّ هذه الاستضافة تأتي بعد النجاحات المشهودة التي سجلتها الدبلوماسيّة العمانية على أكثر من صعيد، وآخرها دورها المشهود في إنجاح الاتفاق النووي الإيراني.
كما أنّه سبق للدبلوماسيّة العمانيّة الإسهام في حلحلة العديد من الملفات المُعقدة على مدى العقود الماضية، منذ زيارة الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات للقدس، وما نجم عنها من فرقة سياسية بين العرب، فيما ظلت عمان محور التواصل بين مصر والأشقاء العرب، وهو موقف يتّسم ببعد نظر، حيث إنه لو وقف العرب مع السادات وقتها - كما فعلت الدبلوماسيّة العُمانيّة - لكان موقف مصر التفاوضي أقوى بكثير، ولتعاظمت مكاسب التفاوض وعادت بفائدة أكثر على مصر والعرب ككل.
كما كان لعمان موقف مشابه خلال الحرب العراقية الإيرانية، حيث بقيت على الحياد الإيجابي في محاولاتها لتقريب وجهات النظر بين الفريقين.
وعلى مختلف الجبهات المُتصدّعة، كانت عُمان تسعى للتقارب وإنهاء الخلافات المُزمنة عبر الحلول السياسيّة والمفاوضات، ويعد نجاحها في الملف النووي الإيراني خير مثال على المصداقيّة العالية التي تُحظى بها على مستوى العالم، وما إشادات جون كيري وزير الخارجية الأمريكية في أكثر من مناسبة بالسلطنة سوى تقدير صريح من أقوى دولة في العالم لمكانة الدبلوماسيّة العمانيّة.
إنّ هذه التحرّكات بمُجملها، تجيء في سياق منسجم مع النهج العُماني الأصيل القائم على ثوابت النهضة ومرتكزات السياسة الخارجيّة العمانية، المستندة إلى نهج السلام والوفاق، وتستقي توجهاتها من الرؤى الحكيمة لجلالة السلطان والتي تضع ضمن أولويّاتها تعزيز الاستقرار والسلم العالميين.
إنّ توافق الأشقاء الليبيين على الاجتماع في صلالة يُجسّد الثقة الكبيرة التي يولونها للسلطنة، والآمال الكبيرة التي يعقدونها عليها؛ لتكون مكانًا لاجتماع كلمتهم، وتجاوز خلافاتهم، بدعم من الدبلوماسيّة العمانيّة التي تُعد خير وسيط للسعي نحو الوفاق..
كما أنّ مشاركة الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية في رعاية اللقاء التشاوري للهيئة التأسيسيّة لصياغة مشروع الدستور الليبي، يعكس المصداقيّة العالية للدبلوماسيّة العُمانية؛ ليس على المستوى الإقليمي فحسب بل على المستوى العالمي، ويؤكد على أنّ القيادة العمانية تُحظى بثقة الجميع؛ وهي ثقة لم تأت من فراغ، بل كانت نتاجًا لإرث حافل في التعامل الحكيم مع الأزمات، وسجل زاخر من المساعي الخيّرة لاستتباب الاستقرار والسلام في ربوع المنطقة والعالم.