سايكس بيكو: زيارة جديدة (2-1)

عبيدلي العبيدلي

تعرض العديد من الأقلام العربية، مُؤخرا، إلى اتفاقية سايكس بيكو، بمناسبة مرور مائة عام على تاريخ توقيعها. ومعاهدة سايكس بيكو، كما تكاد أن تجمع على روايتها معظم المصادر العربية، بما فيها الرصينة، هي تلك الاتفاقية التي ابرمت كنتيجة لاتفاق سري " في العام 1916، أثناء الحرب العالمية الأولى بين بريطانيا العظمى وفرنسا، بموافقة روسيا على تفكيك الإمبراطورية العثمانية. وقد أدى الاتفاق إلى تقسيم المناطق التي كانت خاضعة للسيطرة العثمانية -وهي: سوريا والعراق ولبنان وفلسطين- إلى مناطق تخضع للسيطرة الفرنسية، وأخرى تخضع للسيطرة البريطانية. وقد سُميِّت الاتفاقية باسمي المفاوضين اللذين أبرماها وهما سير مارك سايكس البريطاني ومسيو جورج بيكو الفرنسي".

وفي روايتهم التاريخية، وتناولهم التقويمية لهذه الاتفاقية بمناسبة بلوغها القرن الأول، سيطرت على تلك الكتابات العربية مجموعة من الاستنتاجات التي تحولت إلى ما يشبه المسلمات التي باتت بحاجة ماسة إلى إعادة مناقشة، خاصة من حيث النتائج التي توصلت لها تلك الكتابات، في سياق مقارنتها بين سايكس بيكو الأولى التي يكاد أن يبلى تاريخها، وبين واحدة أخرى قادمة يخطط لها اليوم، كما تقول تلك الكتابات العربية، وتطمح في جوهرها، تماما كما فعلت سايكس بيكو الأولى إلى إعادة تقسيم المنطقة.

تكاد تُجمع هذه المعالجات المعاصرة، في نطاق تقويمها للأولى، وسعيها للتحذير للقادمة المتربصة بالعرب على النتائج التالية:

1- أن تلك الاتفاقية كانت "مؤامرة" ضد العرب، الذين لم يكونوا على علم بخباياها، حاكتها ضدهم الدول العظمى حينها، وهي بريطانيا وفرنسا، التي لم يكن بوسعها تجاوز مصالح روسيا القيصرية، من أجل إعادة تقسيم مناطق نفوذ الدولة العثمانية، التي خرجت منهزمة بعد الحرب العالمية الأولى، في منطقة الشرق الأوسط.

2- أنْها جاءت إثر "فشل المخطَّطات العسكريَّة البريطانيَّة في العراق إبَّان الحرب العالميَّة الأولى، ونتيجة عجزها عن السَّيْطَرة على المضايق التركيَّة، ومع زيادة ضَغط القوَّات التركيَّة على منطقة قناة السويس".

3- أن دراسات حديثة قامت بها مراكز دراسات غربية، أو تصريحات وردت على لسان مسؤولين غربيين تؤكد بما لا يرقى له الشك، أن هناك سايكس بيكو جديدة يتم "هندستها"، في مراكز صنع القرار الغربية، ترمي لإعادة رَسْم خارطة الشرق الأوسط، تماما كما جرى في سايكس بيكو الأصلية، بما يخدم مصالح الدول العظمى الحالية، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة. ومن بين تلك المواد المنشورة التي يستعين بها العرب، ما جاء به "الخبير الألماني فولكر بيرتس في كتابه الأخير الذي استعرض فيه أسباب هذا التطور والسيناريوهات المحتملة لمستقبل المنطقة".

4- أن الاتفاقية ساهمت - سواء بشكل مخطط له- عندما نصَّت بنودها على أن "تنشأ إدارة دولية في المنطقة السمراء (فلسطين)، يُعيَّن شكلها بعد استشارة روسيا وبالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثلي شريف مكة" -أو بشكل عفوي- بفضل تطور الأوضاع الدولية وانعكاساتها على المنطقة العربية، في تنفيذ وعد بلفور المشؤوم، والإعلان عن تأسيس الكيان الصهيوني، دون تحميل العرب أية مساهمة مباشرة أو غير مباشرة في تسهيل المهمة أمام العدو، وحلفائه الأوروبيين.

5- أنَّ اندلاع الحروب الداخلية الطاحنة التي تشهدها المنطقة العربية اليوم، والتي يبدو البعض منها مفتعلا، لا تعدو كونها مؤشرات ملموسة تنذر بهذا التقسيم المشؤوم. وهذا يؤكد على أن التاريخ يعيد نفسه اليوم، وأن المنطقة مقدمة على إعادة تقسيم شبيه بما جرى في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بما يخدم مصالح الدول العظمى، دون أي اعتبار لدول المنطقة أو شعوبها.

جل هذه المعالجات، إن لم يكن جميعها تعاني من ثغرات بنيوية يمس التحليل الذي يقف وراءها، وبالتالي، يشكك في قدرة مثل هذه التحليلات على الوصول إلى النتائج المطلوبة لما تسعى المخططات الدولية إلى تحقيقه بشأن مستقبل المنطقة العربية. ويمكن إجمال ما تعاني منه هذه التحليلات في مجموعة من السمات التي تتلخص في النقاط التالية:

أ- تبرئة العرب دون أي استثناء، حكومات ودول وشعوب من مسؤولية المشاركة، بوعي أو بدون وعي، في تنفيذ ما يطلقون عليه "المؤامرة التقسيمية الجديدة"، رغم أن كل الدلائل تشير إلى ضلوعهم في تنفيذها انطلاقا من مصالح فئوية مادية ضيقة، تضع جانبا المصالح القومية الكبرى لقاء فتات تلقي به الدول العظمى اليوم، تماما كما فعلت بريطانيا وفرنسا، عندما أرادت القضاء على حضور الدولة العثمانية، ومن منطلقات دينية، في ضمائر السكان العرب حينها. ومن ثم، وفي سياق هذه التبرئة الساذجة، يتناسى العرب الذين يحذرون من تلك المؤامرة أنهم لا يتوانون في الضلوع في تنفيذ بعض بنودها. تماما كما حصل في سايكس بيكو الأولى، فيهم يسهلون خطط الدول التي لا يكفون عن التحذير من مآربها.

ب- غرق العرب -دولا وقيادات- في تفاصيل المواجهات العملية اليومية، التي تتولى القيام ببعض المواجهات المحدودة جغرافيا وزمنيا، وتغيب عنهم الصورة الأكبر التي يهدد مشروعها المنطقة برمتها، ويعيد السيطرة عليها، من جديد، وبآليات معاصرة تحت نفوذ الدول الكبرى، التي لم يعد تنفيذ مخططاتها، وضمان نفوذها بحاجة، كما كانت قبل مئة عام، بحاجة إلى وجود عسكري مباشر، أو توقيع اتفاقيات مجحفة، حيث بات للسيطرة مداخل مختلفة أكثر تعقيد من تلك التقليدية المتعارف عليها.

ج- أخضع العرب أنفسهم -وبقرار إرادي- لقوانين لعبة التقسيم الجديدة القائمة على نزاعات متعددة الأوجه، لكنها تصب مياهها القذرة في طاحونة واحدة تخدم مشروع التقسيم الجديد. فمن النزاعات الطائفية، انتقل العرب في حروبهم الداخلية إلى الاقتتال الفئوي، وبعيدا عن هذا وذلك لم يتورعوا عن الدخول في مذابح ذاتية وواسعة تحولت إلى حروب "فنتازية" وهمية مع قوى إقليمية هي أقرب للحليف منها للعدو.

وتأسيسا على ذلك، وانطلاقًا من تلك المعطيات، ومعها المعالجات والاستنتاجات، بات الأمر مُلحًّا أن يقف العرب أمام المرأة من أجل تحسين صورتهم التي بدأت في التشوه قبل أن تفوت الفرصة من بين أيديهم، ويجدون أن معالجة تلك التشوهات التي تطورت إلى بنيوية بات مسألة معقدة إن لم تكن مستحيلة.

تعليق عبر الفيس بوك