تأملات حَوْل معرض الكتاب الأخير

فَيْصل الحضرمي

انْتَهى معرض مسقط الدولي للكتاب قبل أيام معدودة، دون أن أتمكَّن من زيارته. أو ربما، دون أن تراودني رغبة جادة في زيارته. مرت علي الآن سنوات لا أذكر تعدادها منذ اشتريت كتاباً ورقيًّا من معرض الكتاب مُكتفياً بقراءة الكتب المتوفرة في عالم الإنترنت، دون أن يعني هذا أنني أفضل الكتاب الإلكتروني على الورقي إجمالاً، فعبق الأوراق وملمسها الناعم والوشوشة الهامسة الصادرة عن تقليبها وعملية التصفح نفسها وفعل احتضان الكتاب بين الإبهام وبقية الأصابع، وذلك الشعور الحميمي الدائم بوجود صديق مخْلِص مخلِّص يفتح في أسوار الوحدة والخواء عيوناً واسعة نحو عوالم أرحب، ما زالت جميعها تفعل فعل السحر في نفسي، وتهيِّجها لمزيد من الغرق في البحر الأبيض والأسود للكلمات والمعاني والصور والانفعالات. إلا أنَّ جميع هذه المزايا الفاتنة للكتاب الورقي ما عادت تكفي لوحدها للإبقاء على الوشيجة التي تصله بالقارئ في ظل المنافسة الشرسة التي يقيمها معه الكتاب الإلكتروني، خصوصاً وأن الأخير ينفرد بالقدرة الخارقة على تقديم نفسه للقارئ بالمجان، فإذا كان سعر الكتاب لا يشكل مشكلة للقارئ العابر الذي لا يقرأ إلا فيما ندُر، فإنه بلا شك يُمثل مشكلة حقيقية للقارئ المكرس الذي أصبحت القراءة بالنسبة له طقساً تعبدياً يومياً. دون أن ننسى بقية امتيازات الكتاب الإلكتروني كمساحة التخزين المنعدمة فعلياً، وسهولة النقل والاصطحاب لانعدام الحجم والوزن.

وعلى الرغم من هذه المزاحمة الجديرة بالاعتبار التي يفرضها الكتاب الإلكتروني على ندِّه الورقي، فقد استمرَّت دُوْر النشر على دَيْدَنها الآخذ في الاطراد بعرض الكتب بأسعار غالية تبدو غير معقولة في كثير من الأحيان. أصبحتْ الروايات الجيدة مثلاً تباع بثمانية ريالات وعشرة ريالات، بينما كانت تُباع بنصف أسعارها قبل سنوات قليلة، والأمر نفسه ينطبق على الكتب والموسوعات العلمية والتاريخية. وإذا كان لا يُمكننا الحُكم على كلِّ كتاب مُرتفع السعر بأنه غال ومبالغ في ثمنه ما دامت بعض الكتب، خصوصاً المترجمة، ذات كلفة إصدار مرتفعة وتحوي قيمة علمية أو فنية جديرة بالسعر المرصود لها، إلا أنَّ المسألة تختلف كليًّا عندما يتعلق الأمر بالكتب ذات الجودة الأقل أو تلك التي لا يكلف نشرها الشيء الكثير عدا تكلفة الورق والطباعة. وهذه النقطة تحديداً يمكن ملاحظتها فيما يخص الكتب المحلية الإصدار. بعض هذه الكتب، -خصوصاً الموسوعات منها- بلغت أسعارها مبلغاً مثيراً للاستنكار إذا ما أخذنا في الاعتبار ضعف المحتوى ورداءته في بعض الأحيان. والتساؤل حول سبب غلاء الكتب المعروضة له ما يبرره إذا صحت المعلومة القائلة بأن إيجار أجنحة المعرض لهذه السنة لم يتغير عن إيجار السنة الفائتة، ولا يزيد في العادة عن الإيجار المعتمد في معارض الكتب المقامة في الدول المجاورة؛ حيث تُباع نفس الكتب بأسعار أقل بحسب بعض الأصدقاء من مرتادي تلك المعارض.

وبالإضافة لغلاء الكتب، شهد المعرض أيضاً ظواهر أخرى جديرة بالمناقشة من قبيل توقيع الإصدارات والطبعات الجديدة، وكذلك ظاهرة الإصدارات الأولى للكتاب الجدد على عالم الكتاب المطبوع. وهي ظواهر ليست بالجديدة على أية حال، وإن كان حضورها هذه السنة ذا زخم أكبر وأكثر ملحوظية. عملية توقيع الكتب تهدف في المقام الأول للترويج للكاتب والكتاب وزيادة نسبة مبيعاته باعتبار أن أكبر عدد من النسخ يباع عادة في مناسبات التوقيع، كما توفر للقارئ فرصة نادرة للاجتماع بالكاتب ومناقشته حول أعماله ومعرفة وجهات نظره بخصوص موضوع من المواضيع، كما تُتيح للكاتب الالتقاء بقُرَّائه والتعرف على آرائهم حول كتاباته، وتشكل أيضاً سانحة لجامعي الكتب للحصول على كتب تعود على مقتنيها بقيمة مادية كبيرة حال إعادة بيعها حينما يكون الكاتب مشهوراً وذائع الصيت. إلا أن ما يعيب هذه التظاهرة تكريسها لما يمكن اعتباره نوعاً من النفاق الثقافي والاجتماعي. فتواجد الكاتب في صالة بيع الكتاب يدفع أصدقاءه ومعارفه إلى الحضور واقتناء الكتاب من باب المجاملة وتلافي العتاب وكأن المناسبة أشبه بعرس أو عزاء ينبغي حضورهما مهما كانت الظروف لتجنب الملامة والإضرار بالعلاقات القائمة، وهو في الحقيقة أحد الأسباب التي تمنع البعض من حضور المعرض. كما أنَّ هذه الفعالية تساوي في أحيان كثيرة بين الغث والسمين؛ وذلك عندما يتم توقيع كتاب متوسط القيمة الفنية أو العلمية. هذه الضوضاء المصنوعة للفت الانتباه للكتب الرديئة تحجب الكتب الجيدة التي قد لا تحظى بترويج مماثل وتحرمها من الوصول لعدد أكبر من القراء هي أجدر بهم من غيرها، وهي بكل تأكيد عملية غش قبيحة تماثل الترويج لسلعة مضروبة لا تساوي تكلفة إنتاجها ولا شرائها.

الكتب الرديئة حكاية قديمة أضيف إليها في السنوات الأخيرة فصل جديد لم يكن موجوداً. فمع ولادة ما يسميه كونديرا "زمن الصمم" حيث يصير الجميع كُتاباً وينعدم التفاهم الشامل، وبعد ازدياد دور النشر ورواج صناعة الكتب وقراءتها وتنوع وسائل الترويج للكتب بغض النظر عن قيمة مضامينها، تضاعفت أعداد الكتب الرديئة ذات القيمة الفنية أو العلمية المتدنية أو المعدومة بالكامل وأسهم في تضخم هذه الظاهرة السلبية ذلك الشبق المحموم للظهور، والذي ضاعف من حدته نمط الحياة الراهن الذي تمثل طرائق التواصل الاجتماعية سمته الأبرز، ويُمثل شبق الظهور في المقابل علامتها الفارقة. هكذا أصبح الكتاب المستجدون -على سبيل المثال- يتعجلون في نشر كتاباتهم دون الاهتمام بجودة المحتوى، وصار هناك نوع من التواطؤ النفعي غير المعلن بين الكتاب والقراء، الذين يشكل الكتاب والأصدقاء أساساً نسبة جيدة منهم، على أن قيمة الكتاب تكمن في ضجيجه وصخبه، وعلى أن قيمة الكاتب تتمثل في كثرة ما ينشر وليس في جودة ما يكتب. ويعزز من هذا المنحى غياب النقد المتجرد الذي يضع الأمور في نصابها الصحيح بإعطاء المتلقي رؤية صادقة وغير متملقة للكتاب وكاتبه.

الحديثُ عن الكتب الرديئة يقودني تلقائيًّا للحديث عن الكتب الإلكترونية من جديد؛ فكثير من الكتب المطروحة للبيع ورقيًّا متوفرة إلكترونيًّا وبدون مقابل، وهو ما يدفعني مثلاً لعدم شراء الكتب المتوفرة إلكترونيًّا حتى لا أنفق المال في كتاب قد يُخيِّب أملي فتصبح الخسارة مزدوجة، وتتضاعف خيبة أملي في الكتاب وكاتبه. غير أنَّ خيار الكتب الإلكترونية المجانية، لحُسن حظ الناشرين والكتاب، ولسوء حظي الشديد، غير متوفر بنفس الدرجة فيما يتعلق بالإصدارات المحلية، وهو ما يجعل تفادي هذا النوع من خيبة الأمل الذي قد تسبِّبه هذه الكتب أمراً غير وارد في الوقت الراهن.

تعليق عبر الفيس بوك