حفاظا على عنقي!!

ابتهاج المسكريَّة

شهر فبراير الذي أرفض أن أمد له يدي لأصالحه وأحتضنه كما أفعل مع رفاقه من باقي الشهور، بيني وبينه عداء أزلي رغم طبيعتي المسالمة، يأتي موشحا بالاحمرار ليخبرني بأنه نطفة الحب وعلقتها فأدير له ظهري، يطل برأسه من على مانشتات الأفلام ليعلمني بطريقة ما أن الأوسكار يخرج في زمنه، هو ذلك أنَّ به من الرهافة والحساسية ما يجعله مُؤهَّلا ليكون شاهدا على الفن، إضافة لكونه وقورًا ومهذبًا مع العلم والتعليم؛ فيحتفي بالأساتذة باقتطاع يوم من أحشائه ليصبح خاصا بهم، كم هو نبيل هذا الفبراير! وكم هو قلبي ظالم مُستبِّد معه والأكثر غرابة في الموضوع انني أجهل السبب، فلم تنفعني رياضة الغوص في أعماقي ولا السباحة في ذاكرتي ولا ماراثون الركض في عقلي اللاوعي لأفوز بالسبب وأشرع في معالجته..! أين أنت يا فرويد؟

أدخل كذبًا في بياتي الشتوي، أنكمش على نفسي وأعتزل وآخذ بمراقبتي وأنا أضمر وتسقط أوراق روحي، فأغدو شجرة عارية يجرح كبرياءها مرور نحلة، وتشعر بالمهانة والإذلال من تحليق عصفور فقد عشه بها، ويكسر ثقتها بنفسها أنها ما عادت تستطيع تأمين حبة كستناء لصغارها السناجب، وحده حدث فبراير الأهم، حدث الأحداث، يهزني من الأعماق ويكنس عن قلبي الغبار، فيغدو لامعا براقا.

"معرض مسقط الدولي للكتاب" هُدنة ما قبل السلام، ذهبت في يومه الأول "صباحية العُرس" حيث تكون قد ارتاحت من زخم الأضواء والكاميرات ومن أتوا لأجل الواجب ولأجل الدعوة وليس طواعية وحُبًّا، وتخففت من زينتها واكتفت بحقيقتها التي نحبها أن تظهر عليها، إلا أن أمرا مروِّعا قد حدث حين هممنا بالدخول أنا وصديقتي، ونحن نجتاز الحاجز الأمني المستنكر قدومنا؛ حيث إنه يوم مُخصَّص للذكور!! كيف لمعرض لا يتكرَّر سوى مرة كل عام ولا يمكث سوى 10 أيام أن يتحمل مثل هذا التقسيم، فبعد أن تسوي ظروفك وتُأمِّن وسيلة نقل تقلك إلى المعرض الذي قد يبعد عنك بضع عشرات الكيلومترات، وأن تتأكد من استقرار الحالة الجوية، لا تنسى المرور على جدول المعرض المقسَّم تقسيما "جنسيًّا"؛ فتتأكد أنك ضمن "الجنس" المنتخب للدخول في تلك الفترة من اليوم، لكنني وصديقتي وجدنا منفذا في ذاك الحائط الفولاذي، زميل قفزنا فوق اسمه ووظيفته لندخل بكل يُسر في الحركة وعُسر في الضمير الطاحن، أهمس لصديقتي: هل نحن على صواب؟ تجيب: "نحن لا نؤذي أحدا، ثم كيف نسيتي أن الكتاب الأهم الذي أريد نَفَد في اليوم الأول من معرض العام الماضي، ولا أستطيع أن أقامر في شأنه، أتعلمين ماذا يعني أن ينتظر المرء كتابًا منذ العام ونصف العام؟!".

أرد عليها: "ولكن القانون"!

فتجيب: "وُضِع ليختَرق أيتها المجندة للدفاع عن أوسكار وايلد".

نضع الكمامات على ضمائرنا، وندخل المعرض بعد أن يسقط غروري على أنفه، وأنا أمسح الممرات ودور النشر بعيني المجرَّدة، مأخوذة ومولعه بهذا الجمال "لو اجتمعت كل الكتب التي قرأتها مذ تعلمت القراءة لما غطت أصغر ركن هنا".. حقيقة موجعة، أشعر بأن يدي منفصلة عن جسدي، حُرَّة منطلقة تتلمَّس دفات الكتب والأسماء العظيمة، لا نتكلم بين أروقة المعرض، أنا وصديقتي كأننا عقدنا اتفاقا مبرما قبل الولوج، يمرُّ بمحاذاتي رجل يحدث رفيقه بأن رائحة القهوة زكية، أتساءل: أيُّ قهوة هذه؟! أعطي أنفي الإذن بأن تمارس وظيفتها وتكف عن كونها عاطلة مسحورة برائحة الحبر مثلي: "آه.. بالفعل رائحة شهية".

لا يُوقظنا من غيبوبتنا الاختيارية سوى إجابات مندوبي دور النشر عن الأسعار، فتتقلص قائمتنا، شاعرين بحرج الخيانة ونحن نُسقط كتابًا بعد آخر، مكتفين بما هو ضروري ولا يمكن تأجيله بأي شكل من الأشكال.

نخرج من المعرض بائسين وقد أُجْهِز على الأمل المحتضر بالعودة بكل ما رغبنا باقتنائه أو نصفه على أقل تقدير. أقول لصديقتي: "هناك من على بُعد منفذ حدودي اتخذوا من هذا العام عاما للقراءة يدعمونها بكل السبل في المنطقة ككل، حتى إن أختي الصغيرة "زوينة" التي لم تقرأ كتابًا قبل المشاركة قد قرأت حصة لا بأس بها". ترد صديقتي: "لا تُكثري النظر والالتفات إلى هناك، حفاظا على عنقك"!

تعليق عبر الفيس بوك