مواقف خالدة في ذاكرة معتقة (4)

عــلي بن ســــالم كفيتـان

لا زال محمد يحكي لي حكايته فيقول انتهى موسم الخريف المعتم بضبابه والشتاء القارص ببرده ونحن لا نبارح كهفنا الذي يمثل عالمي الصغير منذ بدأت ذاكرتي تعمل ولا أعرف مكاناً غيره سوى القمم التي أرعى فيها عجولي والماء الذي حدثتكم عنه.

هنا أتت المفاجأة غير المتوقعة سمعت أبي منذ حلّ الظلام يُخطط مع والدتي وجدتي وهم يجلسون على النّار استرقت السمع بهدوء لأعلم ماذا حصل فهي المرة الأولى التي يجتمع فيها الثلاثي الذي يرسم خطة المستقبل لهذه العائلة في البداية انتابني خوف ثم فرح ثم أمل رغم أنني لم أفهم شيئاً سوى أنهم يخططون للرحيل من الكهف.

محبتي لهذا الكهف الذي ولدت فيه جعلته كل عالمي فعرفت فيه النّاس وتعلمت فيه المشي والكلام والكثير من المهارات التي لابد من إجادتها لتصبح ريفياً صالحاً لم أتخيل يومًا أنني سأغادر هذا المكان كنت حزيناً جداً وسألت نفسي إلى أين الرحيل ولماذا نرحل ونترك الناس ماذا حل بأبي ولماذا هم متفقون وأنا لم تتم استشارتي لم أنم طوال تلك الليلة حتى الصباح هنا وبعد صلاة الفجر كعادتها جدتي أيقظتني ولأول مرة تعمدت أن أظل في فراشي تعبيرًا عن استيائي العميق من هذا القرار التعسفي.

همست في أذني جدتي وقالت لا تحزن سنذهب لمكان جميل فالنّاس جميعهم يخرجون في هذا الوقت لموقع آخر مع ماشيتهم ويستمتعون بالصيف خارج الكهوف المعتمة والحارة في هذا الموسم وسنعود للكهف عندما يحل موسم الأمطار قم يا بني وجهز نفسك وستكون مهمتك مساعدتنا في كل شيء في هذي اللحظة أزاحت عني الغالية كل الأفكار التي تخبطت فيها طوال الليل وصرت نشيطاً وسألت أبي إلى أين نحن ذاهبون قال إلى السهل الفسيح القريب من عين الماء.

قام والدي بحلب الأبقار ووضعنا الحليب في قربة من الجلد ومن ثم خلط الأبقار مع العجول وأصدر الأصوات التي أعتادها الرعاة للمواشي للرحيل هنا كانت المفاجأة كل بقرة تركض في ناحية ومعها صغيرها ومن ليست لها صغار كانت ساكنة وتمشي كالمعتاد وهناك فوج من الأبقار المسنة تقبع في مؤخرة الركب مع جدتي وأمي تحمل أختي الرضيعة في المهد الجبلي المعلق على مؤخرة رأسها وبكلتا يديها أغراض أخرى وخرج معنا أناس طيبون من كهفنا للمساعدة في هذه العملية. ركضت في هذا اليوم ما لم أركضه طوال حياتي لكي نحافظ على سلامة القطيع ولكني لم أشعر بالتعب فلا زال في أذني حتى اليوم ثغاء الأبقار والعجول وأصوات أبي وأمي وجدتي رحمها الله يحفزوني جميعًا نظير جهدي الاستثنائي كم كان هذه المشهد مهيباً إنّه الرحيل للبحث عن غد أفضل.

في هذا اليوم علمت سر محبة جدتي رحمها الله للبقرة الحمراء المشاكسة لقد قادت القطيع بعد منتصف الطريق بهدوء وكان الجميع خلفها بما فيهم نحن جميعاً إلى المورد وهناك كان عليّ أن أركض مرة أخرى إلى عين الماء قبل الوصول لأعلم من هناك بأننا راحلون لإخلاء المكان لكي لا تختلط أبقارنا مع قطعان أخرى فعند وصولي كان العم محاد هناك أتيت منقطع الأنفاس ولا تكاد كلماتي تصل إليه ففي البداية توجس وظهرت علامات الاستغراب على وجهه وعندما فهم ما أُريد قال ابشر استرح يا بني واشرب ووجه الحاضرين بإخلاء المكان وقفلت راجعا مسرعاً كالبرق لتكملت مهمتي وهنا وصلنا للماء استراح الجميع وشرب القطيع ورحب بنا النّاس ووصلت جدتي أخيراً بعد أن قلقت عليها حاملة عصاها الطويل خلف بقرتيها العجوزتين توجه الجميع إليها مسلماً فالعادة أنّ الناس توقر الكبير خاصة وأنّ الجدة لها أيادٍ بيضاء في شبابها على كثير من الناس.

بعد هذه الاستراحة استأنفنا الرحيل إلى المصيف المعتاد للعائلة كان توقعي أنه كهف آخر ولكن الشيء الذي لم أتوقعه هو أننا وصلنا لمكان فسيح به أشجار التين الظليلة ومطل على سهل آخر خلفه زرقة جميلة عرفت فيما بعد أنّها زرقة البحر.

بعد العصر بدأنا تشييد زرائب للحيوانات أولاً بمساعدة أناس طيبين حيث يقوم فريق من الرجال بقطع أغصان الأشجار من الغابة القريبة ونجرها نحن الأطفال يقول محمد لا زلت إلى اليوم اشتم رائحة أوراق الشجر التي نجرها كم كانت زكية ومنعشة حيث كنّا نوصلها لفريق آخر يقوم بالبناء من الرجال والنساء وغالبيتهم من سكان كهفنا الذي رحلنا عنه قبل المغرب بقليل تم إنجاز المطلوب زريبة للأبقار وأخرى للعجول عبارة عن سياج من الأشجار بدون سقف.

في المساء رحل عنّا من رافقنا من الرجال والنساء والأطفال وبقينا وحيدين في هذا المكان كم كان ذلك موحشاً. ويقول محمد في هذه اللحظات ذهبت بعيدا وبكيت بكاءً شديداً لهذا الفراق ثم رجعت إلى حضن جدتي الدافئ الحنون ودخلت في غيبوبة حتى الصباح من شدة الإرهاق.

وفي صباحنا الأول في المصيف وجدت نفسي في العراء وبدأ والدي وأمي يشيدون دار جدتي أولاً ثم أنجزنا دارنا قبل الظهر فأبي رجل ماهر في البناء وأمي تتقن عمليات تبطين البيوت الهرمية بالحشائش بحيث بدت في مساء ذلك اليوم جاهزة وكم كانت فرحتي عندما وصلتنا الأسرة الثانية عصر ذلك اليوم وبدأنا في مساعدتهم كما فعلنا بالأمس. علمت فيما بعد أنها رحلة الشتاء والصيف في ريف ظفار.

أستودعكم الله موعدنا يتجدد معكم بإذن الله.

حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان.

alikafetan@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك