دولة القانون والمؤسسات والفصل بين السلطات

د . صالح بن هاشل المسكري

Sh-almaskry5@hotmail.com

منذ أن خَلق اللهُ الإنسان على ظهر البسيطة وهو يسعى إلى تنظيم حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويعمل على تحسينها وملائمتها لمتطلبات الواقع الذي يعيشه، وبعد أن أخذت أوضاعه بالتطور والاستقرار واخترع الكتابة وأنشأ المدن والحضارات أصبح بحاجة إلى سن القوانين والشرائع التي تنظم مجتمعه ودولته وعلاقاته، فبدأ بسن القوانين واللوائح ودلت مخلفاته الحضارية المكتوبة على أنّه أبدع في هذا المجال فكانت المسلات الفرعونية والآشورية ومسلّة شريعة حمورابي الشهيرة، وقوانين الألواح الاثني عشر الرومانية التي يعود تاريخها للعام 450 قبل الميلاد ويعتبرها الرومان قانونهم المدني الذي يحفظ حقوقهم، ثمّ جاءت الأديان لتنظم حياة النّاس وعلاقاتهم العامة والخاصة ونزلت الكتب المُقدسة من عند الله، وكان خاتمها القرآن الكريم الذي (لا يأتيهِ الباطِلُ مِن بَينِ يَدَيهِ ولا مِن خَلفِهِ تَنزيلٌ مِن حَكيمٍ حَميد).

ونتيجة لتعقد الحياة وتطورها وتغيرها السريع عمل الإنسان على تحديث وتعديل كثير من القوانين السائدة، ولا شك أنّ هذه القوانين ينطبق عليها ما ينطبق على الإنسان نفسه فهي تنمو وتتجدد وتتبدل تبعًا للتطور الإنساني، وكلما تعقدت الحياة والمجتمعات أصبحت بحاجة إلى قوانين تناسب المرحلة التي تمر بها، وهكذا تعددت هذه القوانين وتطورت وبلغت من الرقي والتطور والدقة والمرونة والإبداع درجة أصبحت معها الدول القانونية تفتخر بدساتيرها وقوانينها لدرجة التقديس، وأصبحت المهمة الأولى للحاكم أياً كان نظامه المحافظة على الدستور وصونه ومُراقبة تنفيذه.

ولضمان أنّ هذه القوانين لا تُخالف القاعدة الدستورية إنما تنطلق منها، كان لا بد من وجود نظام يختص بمراقبة ودراسة ما استحدث من قوانين ومقابلتها مع دستور البلاد لإقرارها أو رفضها أو تعديلها بما يتلاءم مع القواعد الدستورية، هذا النظام أطلق عليه نظام الرقابة على دستورية القوانين.

والرقابة على دستورية القوانين في معناها البسيط هي التحقق من مخالفة القوانين للدستور تمهيدًا لعدم إصدارها إذا كانت لم تصدر بعد، أو إلغائها أو الامتناع عن تطبيقها إذا كانت قد صدرت، وتنشأ الرقابة على الدستورية في ظل الدساتير المكتوبة الجامدة التي يحتاج الدستور فيها إلى إجراءات خاصة لتعديله كالنظام الأساسي للدولة مثلاً، أما في ظل الدساتير المرنة فلا محل لهذه الرقابة لأنّ الدستور يعدل بنفس الإجراءات والأشكال المُقررة لتعديل القوانين العادية ويتمتع كل منها بمرتبة واحدة كما في بريطانيا.

وقد تزايدت أهمية الرقابة على دستورية القوانين في الوقت الحاضر نظراً لتحول معظم الدول من فكرة الدولة الحارسة إلى فكرة الدولة المُتدخلة، وهو ما ظهر بتدخل الدول في المجالات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية وغيرها، ومن ثمّ تعددت وتعقدت القوانين المُنظمة لسلوك الدول في هذه المجالات، وهو الأمر الذي يخشى معه أن تتعارض بعض هذه القوانين مع الدستور، ومن ثمّ تكون الدول كالتاجر الذي يرفع يافطة بنشاط ما على واجهة محله، وفي الداخل يبيع أشياء أخرى مختلفة في غياب الرقيب.

وتأخذ الرقابة على دستورية القوانين عدة صور، إما صورة الرقابة السياسية بواسطة هيئة سياسية تحول دون صدور تشريع مخالف للدستور، وهي هنا رقابة وقائية سابقة لصدور التشريع، وأما صورة الرقابة القضائية التي تُعد أهم أنواع الرقابة على دستورية القوانين وتستهدف تأكيد احترام ما يصدر عن السلطة التشريعية لأحكام الوثيقة الدستورية، وعدم مخالفتها لتلك الأحكام في كافة مراحل وضعها وإقرارها وتنفيذها وتفسيرها.

ولذلك تحرص مُعظم الدول على أن تُضمّن دساتيرها نصوصاً صريحة تكفل وضع السياج التشريعي والإجرائي لمباشرة جهة قضائية متخصصة للرقابة على دستورية القوانين، بحيث يكون للقاضي الحق في أن يتيقّن من تطابق القانون ومن ثمّ اللائحة التنفيذية مع أحكام الدستور، وأن يقف على مدى تجاوز السلطة التشريعية لحدود الاختصاصات التي حددتها لها الوثيقة الدستورية.

كما تظهر صورة الرقابة الشعبية على الدستورية استنادًا إلى فكرة أنّ الشعب هو أصل السلطات، وتنشط الرقابة الشعبية عندما تمتنع جميع السلطات عن الرقابة على الدستورية بنصٍ دستوري يحظر عليها ذلك، بل ويُلزمها بالرجوع إلى الشعب لعرض جميع أو بعض المسائل الدستورية عليه في استفتاءات عامة للنظر فيما إذا كانت أعمال السلطات العامة تتفق مع الدستور أم لا، وهو ما يُعرف بالرقابة الشعبية المُباشرة، وهناك طريقة غير مُباشرة للرقابة الشعبية تتمثل في قيام الشعب بالرقابة عن طريق هيئاته ونقاباته وأحزابه ووسائل إعلامه وحتى نشطائه.

وفي سلطنة عُمان صدر المرسوم السلطاني رقم 90 / 99 بإصدار قانون السلطة القضائية، وجاء في الباب الأول/ الفصل الثاني في ولاية المحاكم "المادة 10" تشكل بالمحكمة العليا "عند الحاجة" هيئة تتألف من ... " أحد عشر قاضياً سماهم بصفاتهم الوظيفية " تختص بتعيين الحكم الواجب التنفيذ في حالة تنازع الأحكام، وذكر القانون في "المادة 11" تكون الهيئة المنصوص عليها في "المادة10" هي الجهة القضائية المختصة بالفصل في المنازعات المُتعلقة بمدى تطابق القوانين واللوائح مع النظام الأساسي للدولة وعدم مخالفتها لأحكامه.

وبعد مرور أكثر من ستة عشر عاماً على صدور قانون السلطة القضائية وقبل ذلك صدور النظام الأساسي للدولة "دستور البلاد" عام 1996م لا نرى حتى اليوم بصيص أمل لتطبيق نظام الرقابة على دستورية القوانين في البلاد، وهو أمر يتجاوز سياسة التدرج التي انتهجتها القيادة في بناء الدولة عمومًا وفي تكوين المؤسسة البرلمانية على سبيل المثال.

وكما قُلنا في منابر ومقالات عديدة، إنّه ليس مهماً الآن قيام محكمة دستورية عليا مستقلة في السلطنة لكلفتها الإدارية والمالية، بقدر ما نراه من أهمية الحفاظ على هوية الدولة القانونية من خلال تأسيس القضاء الدستوري وتأهيل كوادره وتمكينها من الممارسة الدستورية وتحمل المسؤولية الوطنية وإدارة نظام الرقابة على الدستورية بكفاءة عالية في المستقبل، وليس الهدف مما ندعو إليه هو تكبيل سلطات الدولة أو مراقبتها في حركاتها وسكناتها "كما يروج البعض" إنما الهدف هو أن تخضع هذه السلطات جميعاً لقواعد النظام الأساسي للدولة باعتباره سند وجودها ومصدر شرعيتها وأن يكون هذا النظام وحده المرجع لتحديد مؤسسات الدولة واختصاصاتها واختصاصات القائمين على تمثيلها المُعبرين عن إرادتها.

ومعروف أنّه لا يُمكن لدولة المؤسسات أن تنهض بمسؤولياتها في غياب الفصل بين السلطات العامة القضائية والتشريعية والتنفيذية، والتي تحدد كيفية إسناد السلطة إلى فرد أو أفراد مُعينين، وتُحدد اختصاصات كل فرد أو مجموعة، وهو ما يسمى بالشرعية الدستورية، وأن سيادة القانون "التي تعني حكم القانون" لا يُمكن أن تكون كاملة إذا كان القضاء لا يستطيع أن يتصدى لقاعدة قانونية سواء صدرت عن سلطة التشريع أو عن سلطة تنفيذية ليعلن أنها مخالفة للدستور أو موافقة له.

إنّ دولة القانون والمؤسسات، والفصل بين السلطات أمران متلازمان، فدولة القانون كما أشرنا هي الحكم بالقانون وأن يكون الدستور وحده هو الحامي للحقوق والحريات وليس أيّ شخص آخر، أما مبدأ الفصل بين السلطات فيعني استقلال كل سلطة في مُباشرة وظيفتها، فالسلطة التشريعية تُشرّع القوانين، والسلطة التنفيذية تتولى الحكم والإدارة وتسيير أمور الدولة ضمن حدود القوانين، أما السُلطة القضائية فتهدف إلى تحقيق العدل تبعاً للقانون، لكن هذا الفصل لا يعني التخلي التام عن ميزة التعاون بين هذه السلطات واحترام كل سلطة لاختصاصات السلطة الأخرى مع وجود رقابة متبادلة بين السلطات.

وإنّ الإخلال بمبدأ الفصل بين السلطات غالباً ما يؤدي إلى ضعف السلطتين التشريعية والقضائية في مواجهة السلطة التنفيذية المدعومة أكثر من الحُكام، فالعديد من السلطات التشريعية في الدول العربية تتنازل في كثير من الأحيان عن حقها التشريعي وعن الكثير من الحقوق والالتزامات التي يجب أن تقوم بها لمصلحة السلطة التنفيذية مما يُسهم في تدني الأداء البرلماني، وهيمنة السلطة التنفيذية ممثلة في الحكومة وتغولها على بقية السلطات في البلاد.

تعليق عبر الفيس بوك