المستقبل في ورشة الحاضر

رحاب أبو هوشر

يلوح المستقبل في أرجاء العالم العربي على هيئة كابوسيّة. أرض قاحلة إلا من التصدعات والانهيارات. مستقبل مقفل الأفق كهذا، أو مبهم في أحسن الأحوال تفاؤلا، عليه أن يمثل بذاته سؤالا جمعيا كبيرًا، يستنفر ورشة أسئلة تقتضي إجابات جدية وحقيقية، لكننا ندور إلى اليوم في حلقة التكلّس التي قذفت بنا في فم الكابوس.

إننا قلقون على المستقبل، ونجتر القلق ذاته عبر السنين. لم يختلف مضمونه، ولم يتغير حتى شكله، في الندوات والمحاضرات، وفي التصريحات الرسمية. عبارات تحولت إلى أكثر العبارات المستهلكة إعلاميًا، وإثارة للشفقة، واستدعاء للسخرية المرة أيضًا: ماذا قدمنا للأجيال القادمة؟ أو ماذا سنقول للأجيال القادمة؟ وماذا ستقول عنا؟

حال تلك العبارات لا يختلف عن غيرها من العبارات الجاهزة المحنطة التي نقوم بتداولها، ونستخدمها على نحو إنشائي، وحشو لفظي يمهد لفكرة أو يختمها، تماما كعبارات التمني والأدعية وما شابهها، مغفلين كم مضى علينا من الزمن ونحن نرددها ونكررها بلا توقف، دون معنى أو أثر ملموس، ولم نمارس النقد على محتواها ودلالاتها، حتى أصبحت واحدة من العبارات التقليدية المبتذلة، التي يمكن الاستعانة بها أحيانًا، في أعمال نقدية كوميدية، لاستدراج الضحك، منّا وعلينا.

لا ندري إن كان أجدادنا قد طرحوا مثل تلك الأسئلة على أنفسهم كما نطرحها اليوم، ولكن يمكننا القول وبقناعة مطمئنة، أنّهم لم يكونوا منشغلين بالمستقبل واستحقاقاته، بالنسبة لأجيال ستسكنه بعد أن يكونوا قد رحلوا. والأجداد لا نقصد بهم الأوائل، من تفصلنا عنهم قرون طويلة من الزمن، ذلك أن أكثر من ستمائة عام من الغيبوبة الحضارية والتخلف والفقر، عاشها العالم العربي في ظل استعمار "الخلافة العثمانيّة"، ثم الاستعمارات المتلاحقة، زمن كاف لدفن الأجداد اللاحقين، عراة من أي انشغال بأسئلة الأجيال القادمة.

المفارقة أننا في غمرة إطلاق تلك العبارات، التي تبدو واجبًا وعظيًا، أكثر من كونها محاولات نقدية، أو تعبيرًا عن قلق وجودي لأمة، لا نفعل أكثر من سرد أقوال وأفعال الأجداد، متغاضين عن لحظتنا الحالية، ومتخطين تاريخنا الحديث نسبيا، المغرق في الهامشية والجمود، ومكتفين بانتقاء حقب الأوائل الذهبية، في سلوك يناقض فكرة الذهاب إلى المستقبل أو التفكير به، فكلما تعرضنا لأزمة، وما أكثر أزماتنا، هرعنا للاستنجاد بأولئك الأقوياء، دفاعًا عن هزالة وجودنا، وعن هويتنا التي لا نتبينها ولا نطمئن إليها إلا عبرهم، كأننا زبد في بحر الزمان، تتقاذفنا أمواجه وتلقي بنا بعيدًا عن سيرورة حراكها التاريخي.

طرح تلك الأسئلة لا يعدو أن يكون إلا اعترافا بأننا أسرى ماض انقضى إلى الأبد، يدمن عليها من يعجز عن خلق مساحة له في حاضره، ويجيد جلد ذاته المرة تلو المرة على ملك أضاعه ذات تهاون، وذات تاريخ بعيد، مأخوذ بما كان، ومستلب لركود حاله. الأسئلة إقرار بفشل إمكانية اللحاق بالمستقبل أيضا، ليصبح جلد الذات في مكانه تماما، بل ضرورة مستفزة محفزة، لإدراك أن المحذوف في الحاضر، مطرود من المستقبل، وأن الميراث هاجس المتبطل العاطل عن الفعل. وإن كان رهاننا على ما ورثنا، فستكون إجابتنا على سؤال مثل: ماذا قدمنا للأجيال القادمة؟ تتويجا لذلك الرهان الخاسر، حيث إننا لن نورثها من أدوات دخول المستقبل إلا هذه الهزائم والضعف والتخلف.

لن يجدي الإغراق في متعة انعكاس صورتنا في مرآة الماضي، للإجابة عن تلك الأسئلة، إن افترضنا حرقتها وجديتها، وسيسوء الأجيال القادمة أننا كنا نتساءل حيالها، في حين أن حالنا المزري اليوم فضيحة تاريخية مخجلة، لأنّ التساؤل الأساسي يتوجب أن يكون حيال هذه الفضيحة وما قدمناه لحاضرنا لإمكانية تداركها. فكيف يمكن لمفلس اليوم، أن يقدم شيئا لوريثه في المستقبل؟ الإجابة عن أسئلة المستقبل، لا تعني إلا انخراط الفعل والفاعلية في مضارع الوجود، والسؤال عن الحاضر، وما قدمنا له وما قدمنا فيه، وما يقول عنا، هو أكثر أسئلة المستقبل إلحاحا، وهو أكثر الأسئلة تغييبا.

لن يكون حال الأجيال القادمة أفضل من حالنا، ولن يكفي أمة لتبرير وجودها وموقعها التاريخي، الاكتفاء بالتساؤل عن مصير أبنائها اللاحقين، كما لن يعفيها أمامهم من مسؤولية تركهم في مهب الهامشية والإخفاق، بخلاف غيرهم من الشعوب والأمم، ليكونوا يتامى المستقبل. جذورهم منقطعة عن أي تراكم للفاعلية والحضور في المشهد الأممي. هم ليسوا بحاجة لأسئلة ميتة، لآباء وأجداد، ظلوا يحدقون في الأفق، عله ينهمر مطرًا يسقي عطش المستقبل، ولم يفكروا بحفر بئر يروي عطشهم المستمر والقديم.



تعليق عبر الفيس بوك