الميل الأخير في الحوار السوري

عبيدلي العبيدلي

حظيت الاستعدادات لحوار جنيف السوري الذي بدأت جلساته في مطلع فبراير 2016، باهتمام متزايد من لدن المراقبين والمتابعين العرب والدوليين بفضل الأسباب المميزة التالية:

1. تفرده، فساحة الصراع السورية اليوم هي الوحيدة، من دون نظيراتها العربيات الأخريات التي ما تزال تعيش ذيول الحراك العربي الذي انطلقت شرارته من تونس. هذا لا يعني أنّ البلدان العربية التي تفجرت فيها تلك الأحداث أصبحت مستقرة وغير قابلة للاشتعال مرة أخرى، وربما على نطاق أوسع وأشد، لكنها باستثناء سوريا، لم تصل الأمور فيها إلى مستوى التعقيدات التي باتت تسير الحراك السياسي في دمشق. حتى ساحات ملتهبة أخرى مثل اليمن وليبيا، رغم تعقيدات وتشابك الأوضاع السياسية والعسكرية فيها، لكنها تبقى أدنى تشابكاً من الذي عليه سوريا اليوم.

2. تعدد الأطراف العربية والإقليمية والدولية الضالعة في الصراع. فعلى المستوى العربي، بالإضافة إلى الأطراف السورية المتنازعة، هناك حزب الله اللبناني الذي لا ينكر إرساله قوات مسلحة للقتال إلى جانب الجيش السوري النظامي. ومع هذه جميعاً هناك بعض الدول العربية الخليجية المنغمسة، إلى درجة بعيدة، في المعارك الدائرة هناك. وعلى المستوى الإقليمي، إذا استبعدنا الكيان الصهيوني، هناك إيران وتركيا، وكلتا الدولتين لا تنكران اشتراكهما المُباشر في المعارك. بل إنّ إيران خسرت بعض قياداتها العسكرية عندما كانت تتجول في الصفوف المُتقدمة أثناء احتدام المعارك. أما تركيا فهي بين الحين والآخر تقوم بشن بعض الاختراقات الحدودية التي يغلب عليها الطابع العسكري. وعلى المستوى الدولي، ربما تشكل الساحة السورية، إحدى مواقع الصراع التي لا تخفي عواصم الدول الكبرى ممثلة في واشنطن وموسكو انخراطها المباشر في محادثات البحث عن حل نهائي لها. وجولات وزيري خارجية البلدين التي لم تتوقف منذ ما يزيد على العام، دليل محسوس على درجة هذا الاهتمام.

3. المتاخمة الحدودية للكيان الصهيوني، الذي وإن لم يُحرك ساكناً حتى الآن، لكنه حتى وهو في خضم معالجته للأوضاع الداخليةالخاصة به، لا يغفل أهمية الساحة السورية الاستراتيجية في مشروعه الأزلي. ومن ثمّ فهو يُراقب عن كثب تطورات هذه الساحة، حتى يكون مستعدا للتدخل، عندما تقتضي الحاجة ذلك. ولذا فمن غير السليم استبعاده كرقم في معادلات الحلول المطروحة، حتى في حال استمرار غيابه "الشكلي"، إن جاز لنا القول. هذا إذا افترضنا جدلاً أنّ المندوب الأمريكي قد أغفل هذه المسألة، وهو أمر مستحيل عندما يتعلق الأمر بإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط الجديدة.

4. التشظي الداخلي الذي تعاني منه كل الوفود، دون أيّ استثناء. فليست المعارضة وحدها التي تعاني من شقوق في جدران وحدتها. فلو استعرضنا القوى الضالعة، بشكل مباشر أو غير مباشر، فسوف نكتشف أنها جميعًا تعاني من العاهة ذاتها، وهو عدم تحلقها مجتمعة على أهداف واضحة ومحددة. هذا الأمر له ما يفسره، فإذا صنفنا الوفود المشاركة في الحوار إلى أربع فئات: النظام الرسمي القائم، أطراف المعارضة المُعترف بها، القوى الدولية، الجهات التي تقدمت بمشروعات الوساطة، فسوف نكتشف أن في صفوف كل واحدة من هذه الفئات على حدة هناك الكثير من الخلافات، ليست النظرية فحسب، وإنما النابعة من التضارب في المصالح، والتناقض في الأهداف.

5. غياب طرف مُهم عن المحادثات، بغض النظر عن تصنيفنا له، وهو طرف الإسلام السياسي المصنف في خانة الإرهاب، وعلى وجه التحديد "تنظيم الدولة الإسلامية"، فبغض النظر عن موقف القوى من هذا الفصيل، وبعيدًا عن الخانة التي تضعه فيها، فهو في نهاية المطاف أحد القوى العاملة في تلك الساحة، إن لم يكن من بين الأهم فيها. وما لم يكن هذا التنظيم متواجدا داخل ردهات موقع المحادثات، تبقى الاتفاقات والتوصيات التي سيخرج بها المتحاورون رهينة موافقته، أو القدرة على القضاء عليه. وفي حال تجاوز هذه المسألة، سيجد المتحاورون، حتى بعد توصلهم إلى اتفاق، يدخلون جولة جديدة من العُنف لا يعلم سوى الله نهايتها، والتضحيات الجسام التي سترافقها، من أجل إنهاء هذه الظاهرة، بالطرق السلمية أو العنيفة.

6. إنها، في حال نجاحها، يمكن أن تشكل سابقة مهمة، تبنى على مبادئها ومنهجها حلول ساحات عربية أخرى، ليست اليمن وليبيا سوى الأقرب إليها. فتعقيدات الساحة السورية، تتجاوز من حيث الكم والكيف، وعلى المستويين السياسي والعسكري، أي من شبيهاتها في الساحات العربية الأخرى، ومن ثمّ فمن غير المستبعد أن تسعى الأطراف، وخاصة الدولية، وعلى وجه التحديد واشنطن، التي ترى أنّ أوضاع المنطقة العربية لم تبلغ النضج المطلوب الذي يؤهلها للانتقال إلى المرحلة الأعلى التي تُصاغ فيها الحلول، وتوقع عندها الاتفاقات النهائية، إلى أرجاء التوصل إلى حل نهائي، والإبقاء على الأوضاع على النحو الذي هي عليه الآن، إلى أن ترى تلك القوى أن الأوان قد حان من أجل حل مفصلي.

لكن بعيدًا هذا التشخيص للصورة التي باتت عليها الساحة السورية، هناك سؤال ملح، تبقى المعارضة مطالبة بالإجابة عليه وهو: ما هو المشروع الاستراتيجي السوري الذي يفترض أن يجمع عليه الشعب السوري عن بكرة أبيه؟

من يتابع تصريحات أعضاء وفود المعارضة، ويقرأ البيانات الصادرة عنها يكتشف، بشكل واضح وجلي، أنها لم ترق بعد إلى هذا المستوى. فالتصريحات والبيانات على حد سواء، ما تزال غارقة في تبادل الاتهامات، وتوجيه الإدانات، ورفع بعض المطالب التكتيكية قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات.

وحتى ترقى المعارضة إلى هذا المستوى من السلوك الاستراتيجي، وتقطع الميل الأخير في مسيرتها الحوارية الطويلة، ستواصل الساحة السورية احتفاظها بمكوناتها التي هي عليها اليوم، وما على المواطن السوري سوى القبول بهذا الواقع الأليم، إلى أن يرقى أداء معارضته المتصارعة وينهار نظامه المستبد.

تعليق عبر الفيس بوك