ترف أم عرف أم غايةٌ

عائشة البلوشية

أرسل أحد الإخوة صورة لنباتٍ مستغربًا شكل ثمرته الشوكية ومتسائلاً عن اسم تلك الشجيرة، فأجبته بأننا نُطلق على تلك الشجيرة اسم (المرنحا)، وبالطبع هذه التسمية المُضحكة لم تأتِ من فراغ، فمن استطاع فتح تلك الكرة الشوكية وتناول ما بداخلها، فسوف يترنح يمنة ويسرة لاحتوائها على مادة تسبب السكر والهلوسة، ورحم الله أجدادنا فقد فطنوا لتأثيرات تلك الثمرة لذلك كانوا لا يأكلونها ولكنهم يُطعمونها للثيران الغاضبة حتى تهدأ؛ وبعض من أبناء جيلي كانوا يستخدمونها لنصب المقالب والسخرية من غير العارفين بها، فيدسونها في طعام ما، وتبدأ فصول الضحك والسخرية على ذلك المسكين الذي وقع تحت طائلة خطتهم الماكرة، وتنتشر هذه الشجيرة كغيرها من النباتات التي تنمو هنا وهناك في الضواحي والعوابي..

كانت الطبيعة هي المُعين الأساسي والوحيد لنا لاستنباط الألعاب الطفولية، لذلك لم تكن تردُنا الأشواك، ولا تُثنينا الأغصانُ المرتفعةُ عن مرادنا، فكم لعب الكثير منّا بتلك الثمرة الغريبة لشجرة "المغيلان"، وهي شجرة ذات شوك كثير لذلك يتم استخدامها كحظار/ حائط للمزارع قديمًا، أما ثمارها فتكون هلالية الشكل تطبق على ثمرتها الداخلية كالصدفة التي تطبق على اللؤلؤة، وتكون ذات أشواك حادة من الخارج، حيث كنّا نخرج الثمرة التي تشبه الحجارة الملساء، ونقوم بفركها بقوة على الحجارة فترتفع حرارتها، ثم نُباغت بعضنا بإلصاقها على ظهر الكف أو باطنه فتسبب لسعة خفيفة، ونتضاحك ببراءة على ذلك، ولثمرة المغيلان هذه أهمية في علاج "نقطة العين" قديمًا، حيث كانت تسحق حتى تصبح شديدة النعومة ويكتحل بها المصاب.

اللثل أو الأثل ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة سبأ الآية 16 قال تعالى: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ)، هي شجرة دائمة الخضرة، ذات أوراق حرشفية كالخيوط، وثمارها بيضاء قرمزية، وللأثل فوائد جمة يعرفها رجل الصحراء والقوافل القديمة التي كانت تقطع الفيافي، ويتغذى أناسها من العصارة السكرية الغنية بالجلوكوز التي تفرزها سيقان هذه الشجرة، فهي دواء ناجع للحمى وللحرارة الناتجة عن ضربة الشمس، ولهذه الشجرة استخدامات طبية كثيرة، فهي شجرة نافعة من جذورها إلى أوراقها الدقيقة، ولعل أبرز استخداماتها التي لم يكن يخلو أي بيتٍ عماني منه هو اتخاذ أخشابها أوتادًا، وذلك ﻷنّ الرمة (النمل الأبيض) لا يقترب منه نهائياً، ولكم أن تتصوروا كمية المعادن الموجودة في الأوراق.

بدأت حديثي متدرجة من الأصغر حجماً إلى الأكبر، وسواء كانت المرنحا أو المغيلان أو الأثل، أسأل الله أن توجد جهات تضعها تحت مجهر الدراسات والبحوث المُعمقة، والاستفادة من النتائج والاهتمام بها والإكثار من زراعة الأنواع النافعة للاقتصاد، فهي كلها تُسهم في إضفاء اللون الأخضر، وتساعد على نقاء الجو، وبث الأكسجين الذي يعني الحياة بالنسبة لنا، الشجرة ليست ترفًا نغرسها ونرويها بالماء العذب وحسب، لنستعرض للغير أننا نملك الحدائق الغناء، وأنواع الزهور والأشجار والثمار المختلفة، وهي ليست عرفاً دأبنا عليه، ولكنها غاية مهمة جداً توصلنا إلى حب الله تعالى، فنحن نضع البذرة أو نغرس الشتلة، ولكن الله تعالى يتكفل بتوفيقه بزراعتها لنا، ورغم أنّ الشجرة هي الاختبار الأول لمعنى الظلم لبني البشر، (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) البقرة 35، ولكنها أيضاً جاءت مذكورة كنعيم، ووسيلة يسيرة للصدقة، والتي تدل على حب مخزون في القلب الصادق لخالق الكون، فأنت تغرس الشجرة وفي خلدك يدور رجاء بأن ينتفع بها طير أو إنسان أو بهيمة، ويتجاوز رجاؤك بأن العالم بأسره ينتفع بما تغرس ﻷنها تنضم إلى عدد الأشجار التي تزيد من الرقعة الخضراء المتآكلة؛ ولمن لا يعرف هذه المعلومة فقد غرس رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بيديه الشريفتين حوالي مائتي نخلة في حياته، وقد حرص أن يجعل بعض مزارع النخل في وسط المدينة المنورة، لتكون وقفاً للمسلمين ينتفعون بها، وبذلك كان صلوات ربي عليه وعلى آله هو أول من أنشأ المحميات الزراعية في الإسلام في مكة والمدينة، ورسالة لنا بأن رقعة العمران يجب ألا تتغلب على الرقعة الزراعية.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ○ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) إبراهيم 25 ، 26؛ وفي هاتين الآيتين يتضح التشبيه القرآني البليغ بين الشجرة والكلمة، ويتضح لنا أيضاً أنّ هنالك أشجار طيبة وأخرى خبيثة، والواجب علينا أن ننتبه لما نغرسه، حتى تنتشر الإيجابية في الأرجاء وتنعكس على النفوس.

توقيع: "أينما زرعك الله، أزهر".

تعليق عبر الفيس بوك