أيام في الذاكرة

عبد الله العليان

في حياتنا التي مرّت نجد أشياء كثيرة من الصعب أن تمحى من الذاكرة،لارتباطها بذكريات رائعة فيها الكثير من المعاني التي تبعث على الاستدعاء، أينما جاء ذكر ذلك المكان أو الزمان الذي مرّ في يوم من الأيام، ومنها زيارة مدينة الأقصر وأسوان في مصر في الثمانينات من القرن الماضي، ففي فترة الدراسة بالجامعة بمصر، نظَّم نادي الطلبة العمانيين فرع الإسكندرية، رحلة إليهما في فصل الشتاء كما أذكر، وقد كانت من أفضل الرحلات التي ذهبت فيها بحكم روعة الأماكن التي زرناها بما فيها من فن العمارة وبهاء صنعتها التي تأسرك، والإتقان في جماليات هذه الآثار الفرعونية التاريخية العريقة وطيبة أهل هذه المُدن وحسن أخلاقهم،وهذه الآثار التاريخية الموغلة في التاريخ، تستغرب ظروف تواجدها في أماكن مختارة، بعضها وضعت في أودية خاصة لاعتبارات كثيرة، ربما لأسباب دينية أو غيرها، فمنذ اللحظات الأولى لوصولنا إلى الأقصر.. المدينة التاريخية العريقة، أحسسنا أننا نغوص في عُمق التاريخ لا في سطحه.. فقد كان الهدوء يُخيم على هذه المدينة عند دخولنا إليها صباحًا في حافلة كبيرة من محطة القطار الذي أقلنا من القاهرة في رحلة استغرقت 12 ساعة ليلاً، وهذا الشعور يحمل إلينا همسات زاخرة تعكس مظاهر هذه الحضارة وما تمثله من عادات وتقاليد عبر حقب موغلة في القدم عاشها المصريون لعدة آلاف من السنين.

والأقصر مدينة تقع على مسافة 670 كيلومترًا جنوب القاهرة.. وقد كانت ذات يوم كما يُقال عنها أقدم أقاليم مصر حيث اتّخذ أهله رمزاً لهم شعارًا يسمى "واست" ومعناها القوة والصولجان.. ثم أطلق على عاصمته اسم طيبة.. وتعني مدينة الإله الكبرى، أما تسميتها الحديثة فكان ذلك على يد العرب الذين سموها الأقصر نسبة إلى معابدها الكبيرة.

ولعل من أغرب ما شاهدناه في رحلة الأقصر هو وادي الملوك وهو عبارة عن مدافن لهؤلاء الفراعنة القدماء خاصة الملوك والملكات، فقد اتخذ المصريون القدماء بقعة صحراوية على الشاطئ الأيسر للنيل مكانًا لأسباب عديدة أهمها كما يُقال مواجهتها لطيبة الأحياء ثمّ الجفاف الذي يعتقدون أنّه يكفل الخلود للروح، كما أنّ الجهة الغربية من وادي الملوك هي الجهة المقدسة لاعتقادهم أنّها الطريق إلى جنة الخلد.

وقد اختار الملوك أحد وديان "قمة الغرب" ليحفروا فيه مقابرهم وهو الذي يسمى "بوادي الملوك" وقد كان لاختيار الملوك لهذه الأماكن الصعبة البعيدة، حتى على حركة النّاس وتنقلاتهم في ذلك الوقت، أسباب وجيهة منها أنهم كانوا يخشون اللصوص الذي يقومون بسرقة المقابر وكل محتوياتها الثمينة حيث كان القدماء، يضعون الكثير من الأشياء الغالية الثمن لاعتقادهم الديني في الحياة الأخرى، ولذلك اتخذ الملوك طرقًا خاصة للمحافظة عليها ولتضليل اللصوص عن حجرة الدفن، فحفروا آبارًا في سراديب المقبرة، وسدوا الأبواب الأخرى المؤدية لها ثمّ عينوا الحراس الذي يقومون بالمراقبة ليل نهار حول هذا الوادي، وتعاقبت الأجيال وبقيت هذه الآثار وما حملته من كنوز عديدة باقية.

لعل أبرز ما يزوره المرء في مدينة الأقصر وفي وادي الملوك تحديداً، مقابر توت عنخ آمون، ورمسيس السادس، ومقبرة يتي، والمقبرة كانت أول ما اكتشف من الآثار الفرعونية في وادي الملوك، وتُعد من أجمل المقابر إطلاقًا قاطبة من ناحية النقوش والإتقان والمهارة الهندسية،التي قد تعكس المهارات في هذا العصر، والغريب أنّ المصريين القدماء،كانوا يستعملون اللبان الذي تشتهر به محافظة ظفار، حيث ظهر استخدام البخور واللبان في الأغراض الدينية في مخطوطات المصريين القدماء في أيام الأسرة الخامسة والسادسة، وكانت حملات برية توفد إلى أرض اللبان كما يقول بعض الباحثين بين القرن الثامن والقرن العشرين الميلاديين. ويقال إنّه وجدت كرات من اللبان في مقبرة توت عنخ آمون كما أنّه استخدم في التحنيط عند الفراعنة، وإن كان لم يستخدم بكثرة في هذا الغرض لندرته في بادئ الأمر، وشاع استعمال اللبان في التحنيط بعد حوالي ألف سنة من اكتشاف عملية التحنيط، وذلك لأنّ اللبان كان غالي الثمن ولم يتوفر بالكمية المطلوبة لهذا الغرض. إنّ المرء الذي يزور هذه الآثار، وما بها من مسلات ومعابد جنائزية ونقوش وكتابات، يذهل من دقة الإتقان الفائقة، رغم الجو الصحراوي الذي تقع فيه هذه المعابد..والعلم الحديث الذي تقدمت به الوسائل التكنولوجية بصورة مذهلة يعجز عن مسايرة ومجاراة الكثير من الأعمال التي تركها المصريون القدماء، ومع فارق الزمن الذي يفترض أن يكون هناك فرق الإتقان، إلا أنّ بعض الحضارات القديمة من الناحية المادية، تفوقت على أشياء عكست البعد الفني في الإتقان، ولا يجوز حينئذ أن يُقال إنّ القديم كان أعجز من أن يقوم بتصوير هذا البعد ويبدع فيه، بالرغم من بدائية الوسائل وضعف إمكانياتها بمقارنتها مع الوسائل الحديثة.

إنّ الأيام التي قضيناها في مدينة الأقصر الأثرية التاريخية جعلتنا نشاهد ونختزن الكثير من جماليات المكان وروعة الآثار القديمة التي تكشف قدرات القدماء وإبداعاتهم في البناء والمعمار، والتي اتسمت بالجمال الإبداعي الفائق وبأخلاق أهلها الذين عكسوا مقومات هذه الحضارة في التعامل والأخلاق العربية العالية.. وللحديث صلة.

تعليق عبر الفيس بوك