الحياة.. في مكان آخر

فيصل الحضرمي

في رواية بنفس العنوان لميلان كونديرا، تصور لنا الأحداث معنى أن يعيش الشخص حياة ليست هي الحياة التي يفترض به أن يعيشها، حياة تسير على قدمين وتجري على أرض الواقع، ومع ذلك تتجرَّد من الواقعية تماماً لأنها في الحقيقة حياة مُزيَّفة تتقنَّع بأفكار وتطلعات مثالية تنشد السعادة وتعد بالكثير، بينما يعيش الإنسان في كنفها مقيداً باشتراطاتها اللامعقولة وتائهاً عن نفسه التي ضيَّعها وهو يلاحق سراب الكمال الكاذب. وهي أيضاً غير واقعية لأن قطار الزمن الذي يمضي سريعاً في أماكن أخرى أصابه العطب هنا وأصبح كل شيء يراوح مكانه ويدور حول نفسه. كما تصور أيضاً مصير الإنسان الذي يصر على أن يعيش الحياة التي هي في مكان آخر، أي الذي يعيش حياته كما لو كان يعيش في مكان آخر.

نشر كونديرا روايته سنة 1969 وهي تغطي فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها وبعدها، وتتكلم مثل كثير من أعمال كونديرا عن ظروف الحياة في تشيكيا الشيوعية. الشخصية المحورية في الرواية هي شخصية الشاب ياروميل الشاعر الغنائي الذي تتفجر أشعاره بالوجدانيات وضجيج الروح في تقلبها بين الحزن والفرح والسخط والرضا. يولد الشاعر في تشيكوسلوفاكيا قبل الحرب لأب سيلقى حتفه في أحد معسكرات الاعتقال بتهمة تعلقه بفتاة يهودية. تتتبَّع الرواية حياة الشاعر منذ سنوات طفولته الأولى وتترصد اللحظات البكر لانبثاق موهبته الشعرية حيث يولد الشاعر من رحم الطفل عبر جملة موزونة تحصد إعجاب الكبار فيكتشف على إثرها أن تصرفه باللغة بتلك الطريقة يمنحه بطاقة عبور إلى عالم الكبار، وأن عليه أن يواصل نيل إعجابهم بنفس الطريقة حتى يضمن لنفسه مكاناً دائماً بينهم. إعجاب الكبار بالنسبة للطفل ياروميل ليس إلا الوجه الأول من الوجوه العديدة التي يتخذها المجد في حياة الشاعر الذي ستتطور قدرته على نظم القصائد بقدر حرصه على هذا المجد. لكن ما هو المجد؟ وهل يستحق بذل الحياة لأجل خطب وده؟ هل كان الشاعر ليرمنتوف محقاً حين قبل بالمنازلة التي أودت بحياته فقط ليصون مجده وشرفه؟ وهل ما فعله المتنبي صحيح حين ترفع عن الفرار من ملاحقيه الذين أتوه بالموت المحقق كما تقول القصة فقط لكي لا يقال أن الشاعر العظيم الذي شغل الدنيا بأشعار البطولة والإقدام جبن عند المواجهة وولى الأدبار، ويحافظ بالتالي على مجد العظمة التي كلفته الكثير من مشقات الأسفار وعديد القصائد المتكلفة؟

الحياة هي في مكان آخر خارج حلقة الأوهام هذه. هذا ما تقوله الرواية التي تماثل بين نهاية ياروميل بنهاية ليرمنتوف ولكن مع اختلاف بسيط وساخر. فياروميل سيلقى حتفه بعد منازلة مضحكة لا وجود للسلاح فيها وبدل أن يموت بالرصاص كما هو الحال مع ليرمنتوف فإنه سيموت بسبب نزلة برد وهو في مقتبل العمر. فبعد أن يتشاجر الشاعر العشريني المتعصب للأيدولوجيا الشيوعية الحاكمة آنذاك مع أحد الأشخاص عقب نقاش حاد حول رسام متهم بمعاداة الشعب بسبب رسوماته السوريالية المحسوبة على البرجوازية "القذرة"، سينتهي النقاش بياروميل محمولاً من رقبته وطرف سرواله وستدوي ضحكات الحاضرين في رأس الشاعر الغر قبل أن يقذف به في الشرفة المتجمدة من برد الشتاء ويضل هناك عدة ساعات خجلاً من العودة إلى الغرفة التي شهدت سقوطه المريع. أما الرسام الذي دار حوله النقاش فقد كان صديقاً لياروميل قبل أن يتوقف عن زيارته بسبب عدم تبني الأول للمبادئ والأفكار الشيوعية. كان الرسام يعيش في مكان آخر بحسب توصيف ياروميل. كان ميتاً يعالج مواضيع لا صلة لها بالواقع ولذا كانت لوحاته هي الأخرى ميتة لا يسري فيها دبيب الحياة.

لكن الرسام كان له رأي آخر. فالأفكار التي يؤمن بها والطريقة التي يمارس بها وجوده وإن كانت لا تنتمي للمكان الذي يقيم به إلا أنها في الحقيقة أكثر واقعية من الحياة التي تحيط بخناق الجميع في تشيكيا ذلك الزمان. إنه يمارس فردانيته بكل اختصار، وهي الطريقة الوحيدة التي يمكن بواسطتها ممارسة الحياة بشكل معقول. لكن ليكن من يعيش خارج مكانه مستعداً لأسوأ المصائر. فالرسام الذي كان يدرس في إحدى الثانويات تمت إقالته بسبب رفضه التخلي عن توجهاته الفكرية فتحول من معلم إلى عامل في ورشة، وبعد أن كان يمتلك مرسماً في شقته ويعمل على لوحاته في أي وقت يشاء، لم يعد في مقدوره إلا أن يرسم مساءً تحت ضوء اصطناعي. كما قامت الصحافة بالتشهير به ومنعت السلطات لوحاته من العرض.

الحياة هي في مكان آخر ليس فقط بالنسبة لمن لا يجدون أسباب الحياة الكريمة في بلدانهم فيضطرون للهجرة بحثاً عنها في مكان آخر، بل هي كذلك أيضاً بالنسبة للكثير من المغتربين في "أوطانهم" إذا صح أن الوطن هو مكان يمكن أن يغترب فيه الإنسان. كثير من الناس تضج في دواخلهم رغبة عارمة للحياة في ذلك المكان الآخر حيث يمارسون ذواتهم كما هي تماماً بدون رتوش، بدون نفاق، وكثير من هؤلاء ممن لا يستطيعون الفكاك من قبضة الجغرافيا يستعيرون الحياة الحلم من ذلك المكان الآخر ليمارسوها حيث هم ولو بالسر، تماماً كما كان يفعل الرسام الذي كان يرسم لوحات جميلة رغم كل شيء.

تعليق عبر الفيس بوك