"انتظار" إنسانية الرواية العمانية لخليل خميس

سُلطان الخروصي

"... لم أزل أمتلك بصيصا من الأمل، وأجمع اللؤلؤ من بحر حُبك، إني بدونك تائهة، وقاربي يرقب أمواجك، وأمام مشهد الآلام والفوضى والأحزان والقسوة ما زلتُ أبحث عنك..."، تلك إطلالةٌ مُقتضبة من فيض رواية "انتظار" التي يقدمها الروائي العماني خليل خميس لجمهوره، ضمن إبداعاته الأدبية في الوسط الثقافي العماني والعربي، حيث تميزت عن سابقاتها "بيعة الروح" و"ثلاثية الصمت" و"الفلامنجو يهاجر من تلمسان" و"لن أحمل البندقية" بكوكبة من الإيحاءات التي تجذب القارئ لتصور الأحداث والمواقف، كما تضلعت بأنهار من الدفق العاطفي الإنساني، ومما يشحذ العقل والقلب نحو مداد "انتظار" هو الاختصار الموزون في انتقاء العنوان والذي يستمطر في الوسط العاطفي والعقلي جملة من التساؤلات والتصورات المتباينة، فيرى "بارت" في سياق حديثه عن العناوين: "هي أولى العتبات المهمة في قراءة المدونات؛ فالعنوان يعتبر بنية ولادة لمعظم دلالات النص، وهو المولد الفعلي لتشابكاته وأبعاده الفكرية والأيديولوجية"؛ فإيجاز العنوان بستة حروف يشي بجزء كبير من (الترميزات) المستفزة للوجدان، والاستعارات التعبيرية الآسرة والمبثوثة في قلب النص؛ فالانتظار ليس هو الوقت الطويل الذي يقنص من عمر المرء وسكينته فحسب، بل يتجاوزه لمعنى أكبر من ذلك بظروف زمنية ومكانية تخلقها الأحداث.

يقدِّم خليل خميس جوهرته الخامسة "انتظار" لتكون ضمن سلسلة عقده الروائي المتميز وهي مفعمة بالنزعة الإنسانية التي تدافع عن البشرية وكرامتها وحريتها المسلوبة، فعلى الرغم من طول وكثرة أحداثها المتشعبة، إلا أنها انفردت بصبغة تكثيفية في الأسلوب؛ إذ تتوجه مباشرة إلى الهدف مبتعدة عن الحشو المُبتذل، فيشعرك النص بالحيوية والديناميكية والتشويق البديع حيث ينقلك في مساحات شاسعة ومعلومات غزيرة مزدانة بالعواطف والفلسفة والتأويل والحلم والتفكير التأملي والذكاء الوجداني.

"انتظار" هي نافذة تنفتح على الثقافة الإنسانية وتؤكد على مبدأ التشاركية والمسؤولية، أضف إلى ذلك أنها تتمتع بجانب "تفكيكي" في ممارسة الخطاب الأيديولوجي؛ فأصبح النص حرا لا يتقيد بأثقال وأصفاد المجتمع، علاوة على توظيف الكاتب لغة سهلة اتسمت بالبساطة والانتقائية والمزج بين الإبداع اللغوي والقضايا الفكرية؛ لتتذوق اللغة والفكر معا، كما أن الكاتب أخضع نصه البنائي الظاهر وكذلك الخفي لقوانين الحياة والموت، والوجود والعدم، فيخبو حينا وينطلق في أحايين كثيرة، بل يتحول ذلك النص إلى قضايا كبرى فكرية فلا يمكن حصره في النواحي الفنية والأسلوبية فحسب، فالنص كما يقول دكتور صلاح فضل: "قوة متحولة تتجاوز جميع الأجناس والمراتب المتعارف عليها، لتصبح واقعا نقيضا يقاوم الحدود وقواعد المعقول"، ومما يجب الإشادة إليه أن الكاتب جعل نصه مفتوحا في بعض محطاته وكأنه أراد أن يمارس التشاركية بين النص والقارئ.

نُلاحظ أنَّ خليل خميس يتابع مشاهد روايته الجديدة كالماهر بريشته في رسم معشوقته، فبالرغم من الطريقة الحكواتية الهادئة التي تنهمر منها المعلومات والمفاجآت غير المتوقعة، إلا أنها كالعقد الثمين المرصع بالتشويق الدرامي، فتنقلك إلى صراع بين البيئات، والموروث، والحداثة، والتضاد بين عناوين مثيرة كالإرهاب، والديكتاتورية، والتصوف، والإنسانية في لوحة فسيفسائية زاخرة بالجمال والتناقض، فتكشف للقارئ كل ما هو مغطى أو مهمل، وفي ظرفية المكان تميز الكاتب بحرفية لجذب قارئه نحو الاستكشاف وقراءة حكايات الوجوه بلغة صافية خالية من التكلف أو التكلس المعجمي المقعر، علاوة على التقنية الحذقة في المقارنة بين المجتمع المدني الذي يحكمه القانون والأخلاق والحداثة وآخر تتفشى فيه العصبيات والتعصبات والموروثات المتناقضة مع الدين أصلا ، أدخلك الكاتب في عمق النص والأحداث دون أن تشعر بشخصيته التي تشبك خيوطها ووقائعها في كل شاردة وواردة فتبحث عن الراوي أين يكمن؟

تعليق عبر الفيس بوك