مشروع التيار المدني البحريني: ملاحظات ختامية

عبيدلي العبيدلي

في ضوء مجموعة المعالجات التي تناولت مشروع التيار المدني البحريني، يُمكن الخروج بمجموعة من الملاحظات التي نختم بها هذه الجولة السياسية في ردهات هذا المشروع، ملخصة في النقاط التالية:

· إنّ أيّ مشروع لتشكيل تيار مدني قادر على أخذ زمام المبادرة، وتحمل مسؤولية قيادة الطرف المعارض في العمل السياسي البحريني، لا بد له من القيام بدراسة تأصيلية عميقة تؤهله لقراءة المشهد السياسي على نحو علمي مُعاصر، تتمرد فيه على الوقوع فريسة سهلة للقوالب الجاهزة، على المستويات كافة: الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، بل وحتى التنظيمية. هناك حاجة لمثل هذه القراءة التي تشكل شبه الانتفاضة الرصينة الناضجة على الذات، والخروج من جلباب التاريخ نحو آفاق المستقبل. مثل هذه القراءة ينبغي لها أن تنطلق من تشخيص التحولات البنيوية التي عرفتها قوانين الاقتصاد العالمي، وانعكاساتها على الاقتصادات الإقليمية والمحلية، والتحولات العميقة التي حفرتها عميقا في التضاريس الاجتماعية على المجتمعات النامية، ومن بينها المجتمع البحريني. في غياب مثل هذا التشخيص، ستكون الاستنتاجات أقرب إلى الإسقاطات الذاتية البعيدة عن الواقع، وينتظرها مصير من الصعوبة بمكان رسم معالمه.

· إنّ منظمات المجتمع المدني، بالتعريف الواسع الأكثر شمولية لها، يمكن أن تكون أول الأوتاد في خيمة العمل المدني، وأي مشروع يتمخض عنه. ففي غياب عمل جديد مؤصل لبناء منظمات مجتمع مدني ذات أساسات قوية راسخة، سيجد التيار المدني نفسه يدور في حلقة مفرغة تتداخل فيها الأهداف، مع المهمات، وتتضارب في جولاتها مشروعات القوى المختلفة التي يدعي كل منها أنّه صاحب المشروع الأقرب للواقعية، والأكثر تقبلاً في صفوف المواطنين. ليس المقصود هنا الدراسات الأكاديمية المجردة، وإنما تلك التي يستعان فيها بالكفاءات الأكاديمية، الممزوجة بالتجربة السياسية التي بحوزة العناصر القيادية في صفوف ذلك التيار، وربما الصفوف الثانية في تسلسل الهيكل التنظيمي لقوى التيار، يجري مزجها مع كفاءات أخرى لها باع طويلة في العمل السياسي.

· تأطير العلاقة بين مشروعات قوى التيار المدني، وتلك التي تنتمي إلى الإسلام السياسي. والمقصود بالتأطير هنا هو الموازنة الدقيقة بين التميز والتحالف. فليس مطلوباً من التيار المدني البحث عن نقاط الاختلاف وتضخيم صورها من أجل توسيع دائرة فعلها، لكن وبالقدر ذاته من الحرص على الاحتفاظ بعلاقات حميمة مع مختلف فئات تيار الإسلام السياسي، هناك ضرورة مُلحة للتميز عند طرح البرامج، وخوض المعارك. وفي سياق البحث عن الهوامش المشتركة مع تيار الإسلام السياسي، وتحاشي الصدامات غير المجدية التي قد تروج لها القوى السياسية المراهقة من جانب، والقوى التي لا تُريد أي شكل من أشكال التحالف بن التيارين، حتى في أوهى ملامحه العنكبوتية من جانب آخر، من الضرورة بمكان عدم الانسياق وراء التمزيق الطائفي أو بالأحرى المذهبي للتيارات الإسلامية المختلفة. مثل هذا التصنيف سيرتد بشكل أو بآخر على وحدة أيّ مشروع مدني وطني شامل، بالمعنى الاجتماعي/ السياسي لكلمة الشمولية.

· أي مبادرة تفوح منها رائحة الطائفية، بوعي أو بدون وعي، مكتوب عليها الفشل. فكما تسقط قوانين الجاذبية الطيور التي تحاول التحليق بجناح واحدة، كذلك تغتال قوانين العمل السياسي المدني أي حراك سياسي يقوده فريق تداعب خياله مغريات الانفراد بالساحة وإقصاء الآخرين منها، مهما حسنت نوايا هذا الفريق، الذي سيجد نفسه طال الزمان أم قصر، يسير وحيدا مقصيا من الآخرين، وفي مقدمتهم من تعمد تهميشهم، ومصادرة حقوقهم الشرعية في العمل السياسي. ومحاربة الطائفية في العمل السياسي، لا تعني إطلاقاً القفز فوق الواقع، أو تجاهل قوانينه، بل العكس هو الصحيح، فالمطلوب فهم الواقع المعني، وتفكيك مكوناته، وإعادة تركيب هياكلها وفق صيغ عصرية تفتح الآفاق واسعة أمام أيّ مشروع للتيار المدني البحريني.

· التخلص الجاد الواعي، دون نسيانه أو محوه من الذاكرة، من مقاييس، وقيم العمل الحزبي السري، الذي قولب تفكير العمل السياسي البحريني، خلال المرحلة الممتدة من منتصف الستينات حتى النصف الأخير من تسعينات القرن الماضي. ولابد هنا من استحضار تاريخ، ومعه قيم، العمل السياسي الذي يعود بجذوره إلى مرحلة الثلاثينات، وليس الخمسينات، كما يجتزئه البعض عند تأريخهم للحركة السياسية في البحرين. فمن الخطأ الجسيم رؤية الحراك السياسي خلال السنوات الخمس الماضية بعيدًا عن حركة النصف الثاني من ثلاثينات القرن الماضي التي قادها رجال من أمثال "خليل المؤيد، أحمد الشيراوي، علي بن خليفة الفاضل، سعد الشملان، منصور العريّض، محسن التاجر، السيد سعيد، عبد الله أبو ذيب"، الذين أسسوا لمطالب إصلاحية ما تزال تتمتع بالحيوية والريادة التي كانت تزخر بها عند صياغتها.

· الموازنة الدقيقة والناضجة عند تقويم موازين القوى، سواء على مستوى الصراع بين الدولة والمعارضة، أو بين الفئات السياسية المختلفة داخل جسد الكتلة السياسية المعارضة (بكسر الراء)، مع الأخذ في الحسبان البعدين الإقليمي والدولي عند قياس حجم وثقل تلك القوى المحلية النشطة في المشهد السياسي البحريني. إي إخلال بقوانين القياس التي نتحدث عنها، من شأنه وضع قوى التيار المدني أمام مآزق هم ليسوا في وضع يسمح لهم بإضاعة الوقت في التصدي لها من جانب، وهدر الطاقات في أنشطة ثانوية، ومعارك جانبية، ربما تقود إلى حرف التيار المدني عن مساره الصحيح، ومن ثمّ حرمانه من تحقيق مكاسب صغيرة متوقعة، قبل أن تتراكم كي تتحول إلى مكاسب إستراتيجية.

· القدرة على التمييز الواضح بين الثوابت التاريخية والمتغيرات الطارئة، مع ضرورة التشديد على أنّ أيّ منهما لا يملك صفة السرمدية، إذا لا بد من حساب كليهما في ظروف محددة، وخلال فترة زمنية مرصودة، وفي ظل أوضاع سياسية واقتصادية محددة أيضًا. ومن شأن أيّ إخلال في تمييز الثوابت عن المتغيرات، أن يفقد التيار المدني القدرة على قيادة الحركة الجماهيرية، ويحول دون وصوله إلى الكتلة الحرجة التي تحتاجها عمليات التغيير الكيفية في المجتمع المراد تطويره.

تعليق عبر الفيس بوك