الثورة الصناعية الرابعة.. ومستقبل البشرية

فهمي الكتوت

انتزعتْ البرجوازية الصاعدة في أواخر القرن الثامن عشر الحرفيين والفلاحين من ورشهم وأراضيهم لتحولهم إلى عمال مأجورين، يتمتعون بحرية بيع قوة عملهم، لكن بشروط رأس المال، ساعات عمل طويلة تصل إلى 16 ساعة في اليوم، وأجور زهيدة، ومع دخول الآلة الكهربائية في عصر الثورة الصناعية؛ تعرض أعدادا كبيرة من العمال للفصل من العمل، كانت ردود أفعالهم عنيفة في مواجهة قطع أرزاقهم؛ فقد حطم عمال النسيج في بريطانيا على سبيل المثال الآلات والماكينات التي حلت مكانهم، معتقدين أنَّ الثورة العلمية التكنولوجية تسبَّبت بطردهم من العمل، وجلبت لهم الخراب بإدخال الآلات الصناعية الحديثة، غير مدركين أنَّ أسلوب الإنتاج الرأسمالي هو الذي دفعهم إلى سوق البطالة. وبدلا من معالجة مشكلة البطالة وتخفيض ساعات العمل، أقدمت الحكومة البريطانية في حينه على معاقبة العمال، بإصدار الأحكام الجائرة التي تراوحت بين الاعتقال والإعدام والنفي. واستثمر رأس المال التقدم الصناعي والتقنيات الحديثة وتكنولوجيا المعلومات في مرحلة لاحقة في مواجهة الأزمات الاقتصادية.

واليوم.. يقف العالم على أعتاب مرحلة جديدة بدخول الثورة الصناعية الرابعة، بدخول الذكاء الصناعي، والروبوتات وإنتاج السيارات الموجهة بلا سائق، والاستخدامات الواسعة لتكنولوجيا المعلومات؛ فهل يدفع الذكاء الصناعي ملايين العمال إلى سوق البطالة؟ وهل العالم مقبل على صراع حاد بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج الرأسمالي؟ أسئلة أصبحت تطرح نفسها على علماء الاجتماع وقادة الحركات العمالية النقابية في العالم، مع دخول الجيل الرابع من الثورة الصناعية. فمن المعروف أنَّ أسلوب الإنتاج الرأسمالي قائم على الربح، وأنَّ الرأسمالية المتوحشة لا تقف عند حد معين من الربح؛ فهي تسعى لتسخير كل الامكانيات العلمية للاستيلاء على الثروة واستغلال العمال والفقراء المعدمين. وقد بدأت هذه السياسات تشكل خطرا حقيقيا.. تقول أندي هادين كبيرة خبراء الاقتصاد في بنك إنجلترا، هناك 15 مليون وظيفة في بريطانيا مهددة بسبب الأتمتة. فهل الذكاء الصناعي وسيلة جديدة لحرمان العمال من العمل، وإفقار وتجويع ملايين البشر بدلا من ان تكون وسيلة لرفاهيتهم؟

إنَّ تشديد الاستغلال وفرض السياسات الليبرالية الجديدة والدخول في المضاربات المالية بهدف الربح السريع في عصر العولمة أوصل المراكز الرأسمالية إلى الأزمة المالية والاقتصادية الحادة التي انفجرت في سبتمبر 2008، فهل استفادت الرأسمالية من تجارب الماضي.. لا أعتقد ذلك؛ فالقضية ليست أخلاقية بل هي مصالح طبقية، تفرضها قوانين الرأسمالية، وتتحكم بالعلاقة بين العمل ورأس المال، دون اعتبار للجوانب الإنسانية، بدليل أن الإجراءات التقشفية التي فرضتها على الطبقة العاملة وصغار الموظفين والشرائح الدنيا من البرجوازية الصغيرة، بتحميلها أعباء الأزمة الرأسمالية؛ فعلى الرغم من أن الاحتكارات الرأسمالية حصدت أرباحا تجاوزت الأرباح التي كانت تحققها قبل الأزمة، إلا أنها قلصت النفقات العامة على الخدمات الصحية والاجتماعية، ورفعت سن التقاعد، وفرضت ضرائب إضافية وخفضت أجور العاملين والمتقاعدين في كثير من الحالات. كما نقلت رؤوس أموالها إلى الدول التي تحقق نموا اقتصاديا مرتفعا. فهي غير معنية بوطن أو مجتمع محلي بقدر ما هي معنية بالأرباح.

ومن هنا، يُمكن النظر للثورة الصناعية الرابعة من زاويتين؛ الأولى الفوائد التي ستنعم بها البشرية بتسخير العلم لصالح الإنسانية، ومن الناحية الثانية المخاطر الكبيرة التي ستخلفها، وهذا يتوقف على طبيعة القوانين السائدة في المجتمع، هل ستنعم البشرية بمنجزات الثورة الصناعية الرابعة، ام تنحصر الفائدة بالثراء الفاحش لرأس المال.

يقول مارتن فورد في كتابه بعنوان "انتشار الروبوتات" -الحائز على جائزة "ماكنزي" لأفضل كتاب في مجال الأعمال- الروبوتات سوف تخطف منا فرص عملنا. إذن كيف ستؤثر الثورة الصناعية على حياة البشر؟ ومن سيقطف ثمارها ومن هي الجهات المتضررة؟ بالتأكيد سوف تسهم في زيادة الإنتاجية بشكل ملموس، بحيث تؤمن الصناعات الحديثة وفرة في الإنتاج لإنهاء الجوع والفقر في العالم في حال وجود نظام اقتصادي عادل، وسيرفع من مستوى الخدمات العامة، ويؤمن وسائل نقل أقل تكلفة وأفضل خدمة، ويحقق الرفاهية للبشر وينهي معظم الأمراض المستعصية، لكنه سينهي خدمات جزء مهم من العُمَّال الفنيين والمهرة، وسيعمِّق الهوة بين الطبقات الاجتماعية لغياب العدالة؛ الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه للثورات الاجتماعية التي تسعى لتحقيق العدالة وتوفير العمل للجميع، بتخفيض ساعات العمل بدلا من الاستغناء عن نصف العمال، وبزيادة دخل الطبقة العاملة لتمكينها من توفير احتياجاتها الضرورية، واستهلاك المنتجات، وتجنيب الاقتصاد العالمي مرحلة فيض الإنتاج والدخول في الكساد الاقتصادي.

... إنَّ الظروف الموضوعية التي تفرزها الثورة الصناعية الرابعة ستضع العالم أمام خيارات محدودة، إمّا نظم فاشية ديكتاتورية تلجأ للإبادة الجماعية لفئات واسعة من البشر تعتقد أنها حمولة زائدة على الدولة الرأسمالية المتوحشة، وإما الوصول إلى نظام اقتصادي يحقق العدالة الاجتماعية.

تعليق عبر الفيس بوك