حاتم الطائي
الحراكُ الاقتصادي الذي دبَّ حثيثًا في أروقة الحكومةِ مطلع هذا العام، استجابةً للتحدياتِ التي فرضتها المرحلة، والهادف إلى تفعيل التنويع الاقتصادي والإشراك الفعلي للقطاع الخاص في كل مجالات الاقتصاد، أمر جيِّد وجديرٌ بالتقدير لأنَّه يضع اقتصادنا في المسار الصحيح ويُحصنه ضد تقلبات السلعة الواحدة والظروف غير المواتية عمومًا..
ولكن ولكي يُؤتي هذا الحراك أُكله، أرى أنَّه ينبغي أن تواكبه "إستراتيجيات ناعمة" بمعنى إيجاد آليات عمل مفصلة لتوضيح الشراكة مع القطاع الخاص.. ومن البشائر المُعلنة مع إطلالة العام الجديد، مشروعالواجهةِ البحريةِ لميناء السُّلطان قابوس السياحي، وشركة "تنمية معادن عُمان" .. وهما ضمن مشاريع عديدة واعدة قادمة، تؤذن ببداية انطلاقة جديدة من الشراكة بين القطاعين، ويتولى فيها القطاع الخاص زمام المُبادرة، ويكون له قصب السبق في إدارة دفَّة الاقتصاد بصورة تكفل تعظيم المردود من الاستثمارات..
وحتى لا تقع مثل هذه المشروعات في شراك التوهان في "الخطاب الكبير" الذي يعجُ بالعموميات والأرقام الكبيرة دون تحديد آليات وكيفية الوصول إلى هذه الأهداف الكبيرة، والدور التفصيلي للقطاع الخاص فيها..
كثيرٌ من المستثمرين يحجمون عن الدخول في مثل هذه المشاريع لغياب "الإستراتيجية الناعمة " التي تُحدّد خارطة الطريق للمستثمرين وأصحاب الأعمال للمشاركة في مثل هذه الفرص الاستثمارية بتمليكهم المعلومات اللازمة حول كيفية أن يصبحوا جزءًا من هذه الأعمال..
فمثلاً مشروع كتطوير الواجهة البحرية، يتضمن في ثناياه الكلية الكثير من الفرص الاستثمارية الصغيرة والمتوسطة التي تلائم الكفاءة المالية للكثير من أصحاب الأعمال، والذين قطعًا سيتحمسون لاغتنامها فيما لو أحاطوا بكافة تفاصيلها..
وغنيُّ عن القول هنا، إنّ غرفة تجارة وصناعة عُمان يمكن أن تضطلع بدور حيوي لجهة الترويج للمشاريع الاستثمارية التي تُناسب أعضائها من أصحاب الأعمال والوفود التجارية التي تزور الغرفة على مدار العام، وكذلك الحال بالنسبة لسوق مسقط للأوراق المالية، حيث يُمكن أن تلعب دورًا محورياً في تمويل الاستثمارات عبر الاكتتاب العام لتأسيس أذرع استثمارية فاعلة ونشطة في توجيه السيولة نحو الاستثمار، وهذا أيضًا يدخل في إطار الإستراتيجية الناعمة التي أتصور أن تتضمن أهدافها كذلك تأمين التمويل من المستثمرين، وهؤلاء ليس شرطًا أن يكونوا جميعاً من كبار المستثمرين، بل يمكن أن يكونوا من مختلف الشرائح، وفي هذا الصدد، حسناً فعل الشركاءُ المؤسسون لشركة تنمية معادن عُمان بإعلان عزمهم تخصيص 40% من أسهمها للمواطنين..
وطالما أننا نحكي عن الجانب التمويلي للاستثمارات، فحريٌّ بنا أن نقول:إنّ جزءًا مهمًا من تمويل الاستثمارات ينبغي أن تنهض به البنوك كشريك إستراتيجي خاصة في المشاريع التي تركز على التنويع الاقتصادي باعتباره من أولويات المرحلة الراهنة والمستقبلية.. ويُمكن للبنوك العُمانية أن تتجاوز الدور التقليدي لها، وتخطو خطوات مُهمة في مجال تمويل الاستثمارات..
وهنا يبرز دور بنك التنمية العُماني، كممول رئيسي للاستثمارات، إلا أنّه لكي يقوم بهذا الدور بالصورة المأمولة، ينبغي زيادة رأسماله بشكل كبير ليكون قادرًا على تلبية احتياجات المرحلة بمشاريعها المختلفة والمتنوعة..
وثمَّة جانب آخر مُتعلق بالإستراتيجية الناعمة لتطوير الاستثمار، وهو يتعلق بالبيئة التشريعية للاستثمار التي تحتاج إلى تحديث لتحفيز الاستثمارات وتدعيمها في جميع القطاعات ولكافة الشرائح الاستثمارية، فتطوير القوانين يكفل استيعاب احتياجات المرحلة، ويُخلِّصها من حالة الجمود والركود التي لا تخدم جاذبية البيئة الاستثمارية..
ويدخل في صلب اهتمامات الإستراتيجيات الناعمة كذلك، تسهيل إجراءات المشاريع الاستثمارية المطروحة للشراكة مع القطاع الخاص، حيث إنّ البيروقراطية أضحت عقبة كأداء تصطدم بها طموحات المستثمرين، والمأمول أن تتفتق أذهان القائمين على هذه المشاريع من الجانب الحكومي عن أفكار إبداعية لتذليل المعوقات التي تعترض طريق المستثمرين، وفي مُقدمة ذلك تبني المحطة الواحدة لإنجاز المعاملات بدلاً مما هو سائد الآن من توزّع مهام واختصاصات التصاريح لمشروع واحد على العديد من الجهات، الأمر الذي يهدر جهداً ووقتاً ثمينين يتطلع المستثمر إلى استغلالهما في المضي قدمًا بمشروعه على أرض الواقع.
ونحن أحوج ما نكون إلى الإستراتيجية الناعمة في جزئيتها المُتعلقة بتيسير الإجراءات، في ظل وضوح توجه الحكومة وفقاً للخطة الخمسية التاسعة، نحو تفعيل القطاعات الخمسة الواعدة للتنويع الاقتصادي والمُتمثلة في السياحة والصناعة واللوجستية والتعدين والثروة السمكية، خاصة أنّه يُعول على القطاع الخاص كثيراً للقيام بدور رائد في تطوير الاستثمار بهذه القطاعات الحيوية..
ففي تبسيط الإجراءات تكمن العديد من عوامل الحفز التي يُمكن أن تُسهم في جذب الاستثمارات الوطنية والخارجية لإنعاش التنويع الاقتصادي وخلق فرص وظيفية جديدة لشباب عُمان..
وخلاصة، أرى أن الإستراتيجيات الناعمة إذا ما أُحسن تطبيقها، ستكون خارطة طريق لنجاح الإستراتيجيات الكبرى، وتضمن فعاليتها في تحقيق أهدافها الرامية إلى تحقيق التنويع الاقتصادي على قاعدة عريضة قوامها الشراكة المجتمعية.