وهم المعرفة

أسماء القطيبية

يقول ستيفن هوكينغ: "أكبر عدو للمعرفة ليس الجهل، ولكن وهم المعرفة"، وعلى ما يبدو أن وهم المعرفة هذا قد بدأ يتفشّى في مجتمعاتنا بكثرة، ويأخذ أشكالا متعددة بعضها واضح يسهل اكتشافه، وبعضها أكثر ذكاء ومراوغة. ووهم المعرفة هذا يترافق غالبا مع تضخم للأنا عند من يحملونه، فهؤلاء الأشخاص الذين يدعون معرفتهم بكل شيء، أصحاب المقولات التي لا ترقى إلى الشك، والقرارات التي لا تحتاج إلى إعادة نظر هم أشخاص معجبةن بأنفسهم. وقلما تجد أحدهم يذكر عيبا في نفسه أو نقصا في شخصيته. بل على العكس، فكل ما يصل إلى اذنيك عبارات مغرقة في النرجسية، ومبالغات يصعب عليك تصديقها.

يصنف علم النفس "تضخم الأنا" على أنه مرض يحتاج إلى تدخل، لكونه قد يكون مؤذيا للشخص وللمحيطين حوله. فالشخص المصاب بهذا المرض قد يلجأ إلى فرض رأيه على الآخرين ــ كونه الأكثر معرفة وحكمة ــ مما يدفعه إلى إيذائهم، وعلى العكس قد يلجأ إلى إيذاء نفسه إذا ما بدا له أنّ الآخرين لا يستجيبون له أو يولونه الاهتمام الكافي. ويُعتقد أنّ الرئيس الليبي السابق معمر القذافي كان أحد الذين يملكون أنا متضخمة، يتضح ذلك من خطاباته وكتبه التي ألفها في مجالات متعددة، والتي تحمل أفكارًا غريبة وحلولا سطحيّة لمشاكل مستعصية. ومن كتب التاريخ فإنّ المتنبي الذي نظر الأعمى إلى كتبه، وسمع شعره الأصم هو النرجسي العظيم الذي دفع به إعجابه بنفسه إلى كتابة أعذب الأشعار مدحًا وفخرًا.

في زمن يتباهى فيه الناس بشهاداتهم العلمية، بحيث يعني الحصول على شهادة تعليمية رفيعة مكانة اجتماعية أرقى يجد الناس الذين حظوا بنصيب متواضع من التعليم أنفسهم معرضين للتهديد، ويتسرّب إليهم الشعور بالنقص، فيكون توهم المعرفة في هذه الحالة هو الحل السريع للتخلص من هذا الشعور، ويمكن ملاحظة المتوهمين من هذا النوع بكثرة في وسائل التواصل الاجتماعي، هؤلاء الذين يتحدثون ويجادلون في كل شأن لا يعرفونه بغية نيل أكبر عدد من المتابعين الذين يعزون لديهم الشعور بكونهم أصحاب العلم الغزير والرأي السديد. وهؤلاء أحسي أنهم كانوا يدركون بداية مستوى معرفتهم وحدودها قبل أن يصابوا بالوهم المعرفي.

وعلى النقيض هناك أصحاب الشهادات العلمية الذين يجدون أنفسهم أمام ضغط مجتمعي كبير يرى في ألقابهم العلميّة دليل حكمة وذكاء، مما يجعلهم يتوهمون أنهم أصحاب المعرفة، الحاملين للوائها، فيبدون آراءهم ــ أو آراء غيرهم دون ذكر مصادرها ــ في كل شيء بدءا بالسياسة مرورا بالاقتصاد وأخيرًا قضايا المجتمع، مطعمين أحاديثهم بمصطلحات تميزهم عن الآخرين، معتبرين التحفّظ عن رأي أو التراجع في رأي دليل ضعف لا يقبلونه على أنفسهم.

وكما أنّ "ما كل من ذاق الصبابة مغرم" فإنّ ما كل من ادعى المعرفة يحملها. وعلامات توهم المعرفة من حسن الحظ واضحة، يكاد يراها كل شخص إلا من يحملها. فالمتوهم يتحدث في أمور لا يكاد قرأ أو سمع عنها سابقا، لذا فخلفيته عن المواضيع التي يناقشها وحيثياتها ضئيلة جدًا، ومن علامته أنّه يقدم رأيه باندفاع ودون تحر، ولا يتراجع عن رأيه بأي حال من الأحوال، وهو يلجأ غالبا إلى شخصنة الأمور، فإمّا أن توافقني الرأي فنتفق، وإمّا أن تعارضني وحينها فأنت ضدي وسأتغلب عليك. ولا أدري حقيقة كيف لهؤلاء أن يقدموا آراءهم بتلك النبرة الواثقة التي لا تحمل أي شك، بينما تجد فلاسفة كباًرا بلغوا من العلم مبلغا كبيرا ممتلئين بالشك، يعرضون نظرياتهم وآراءهم مع التأكيد في كل مره على أنّها ليست الحقيقة، وأنّه ليست ثمّة حقيقة مطلقة أصلا.

متوهمو المعرفة، من خلف الشاشة خاصة، هم في الحقيقة أشخاص منفرون بنرجسيتهم الطاغية وثقتهم العمياء، لا يلقون بالا لرأي الآخرين في معارفهم ولا يستجيبون لنصيحة، وهذا الوهم الذي يحملونه ما هو إلا قشرة هشة تنكشف عند أول حوار، وليت هؤلاء يدركون أنهم أجمل وهم يظهرون على حقيقتهم متواضعين للعلم، راغبين في الاستزادة منه مرددين كل صباح قوله تعالى: "وقل ربِّ زدني علما".

Asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك