الإدارة

سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (29)

د. صالح الفهدي

ما إنْ حل في منصبه حتى أطلق فيضاناً من القرارات يريد أن يجتاح بها كل مديريات، ودوائر، وأقسام الوزارة، يُبعد هذا، ويقرِّب ذاك، يرفع هذا ويدني ذاك، فقال له الرجل الثاني بهدوءٍ: على رسلك، أمهل نفسك وقتاً كي تكون قراراتك بصيرةً، وسديدة. لم يكن يعلم الرجل الثاني أن نصيحته لن تلاقي الآذان الصاغية، وأنه إحدى ضحايا هذه القرارات المتنطعة!

لقد عانت -وتعاني- الكثير من الجهات -حكومية أو خاصة- في مجتمعاتنا من الإداريين الذين لا يفقهون في الإدارة شيئاً، بل خلطوا بينها وبين السلطة المطلقة، دون تعميم مطلق فهناك ممن هم أحسنوا إلى هذه القاعدة التي يرتكز عليها بناء الوطن. يقول الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: "لو كانت الإدارة العربية جيدة لكانت السياسة العربية جيدة والاقتصاد العربي جيداً والإعلام العربي جيداً والخدمة الحكومية جيدة". وفي هذه المقولة مصداقية بعيدة النظر؛ إذ أنَّ الإدارة ليست علماً لاهوتيًّا منفصلاً عن واقع الحياة وإنما كل قطاع، بل كل مشروع يعكس طبيعة الإدارة، والفكر الذي يكمن وراءها. هذا الأمر يؤكده بيتر دراكر "أبو الإدارة" بقوله: "ليس هناك دول متخلفة اقتصاديًّا، بل هناك دول متخلفة إداريًّا فقط، فكل تجاربنا في الدول النامية تؤكد أن الإدارة هي المحرك الأساسي للتنمية، وبدون توافر هذا العنصر، لا يمكن تحقيق التنمية حتى لو توافرت جميع عناصر الإنتاج الأخرى".

أما الفكر الإداري السائد عندنا، فهو "أنا ومن بعدي الطوفان"، فإن كان حاضراً فهو كل شيء، وإن كان غائباً كان العمل في حكمه لا شيء..!! المسؤول -في مستويات وظيفية مختلفة- إن غاب تعطلت المعاملات، وعطلت المصالح، وأوقفت التواقيع، فلا تزال حقائب البريد تلاحقه لأنه لم يشأ أن يتبع نهجاً بديلاً عن تملك الوظيفة، وإن كان ذلك على حساب صحته، وأوقات أسرته..!! وإن كان حاضراً فالآخرون أجساد ملقاة على كراسيها دون عمل..!! يقول الدكتور غازي القصيبي وهو من أكفأ الإداريين في وطنه: "الإداري الناجح هو الذي يستطيع تنظيم الأمور على نحو لا يعود العمل بحاجة إلى وجوده".

إننا في منأى عن الفكر الحديث للإدارة، ذلك الفكر الذي يقوم على إدارة وتنمية الموارد البشرية، وما فعلناه لم يتجاوز تغيير عناوين الدوائر من "دائرة شؤون الموظفين" إلى "دائرة الموارد البشرية" أما الفكر، والثقافة، والمهام الوظيفية فلم يتغير فيها شيء..!! لهذا فلا غرابة أن تجد الإدارة التقليدية تمارس في قطاعاتنا الحكومية والخاصة على نحو واسع، حيث يندر أن تجد نموذجاً عصريًّا مختلفاً. الإدارة العصرية تقوم على اعتبار الموظف أهم أصل من أصول المؤسسة لهذا توليه العناية والرعاية والاهتمام؛ فلا يقال له إن لمح بالخروج من المؤسسة: سيأتي بدلاً عنك عشرة..!! لأن هذا الكلام لن يصطحبه معه إن رحل، وإنما يبقى في نفسية كل موظف يعمل في تلك المؤسسة!

الإدارة الحديثة تقوم على التوجيه والإرشاد لا على وقوف المسؤول على رأس الموظف يراقبه في سكونه وحركاته، ويُملي عليه كل ما يفعل كما يفعل البعض حتى "طفش" منهم موظفوهم واستحبوا التقاعد على مذاق الإستخفاف المر الذي تجرعوه من المسؤول..!! يقول (George Patton): "لا توجه الناس دائماً إلى كيفية أداء أعمالهم، بل أخبرهم بالمطلوب وسيفاجئونك بابتكاراتهم".

الإدارة الحديثة تقوم على أسس إشراك الموظفين في القرار لكي يشعروا بإنتمائهم للمؤسسة، وهو ما يرفع من معدل رضائهم الوظيفي، وولائهم للمؤسسة التي يعملون بها، وليس وفق ما تمارسه الإدارة التقليدية من فرض القرارات على الموظف وإلزامه بتطبيقها وهو غير مقتنع بها لا في حينها، ولا في أية مرحلة لاحقة..! نعم تفرض الإدارة العليا القرارات الإستراتيجية على الموظفين الذين يعرف عنها معارضتهم للتغيير -في الأغلب- ولكن ذلك لا يعني عدم استشارتهم في اجراء التغيير ذاته، أو استبيان وجهات نظرهم وتحليلها قبل صدور القرارات؛ لأنه من السهل اتخاذ قرار بيد أنه من الصعب التراجع عنه فيما بعد!

الإدارة الناجحة تركز على النتائج والإنجازات أكثر من تركيزها على الإجراءات، وما يستتبع ذلك من تعقيدات تبطئ حركة المصالح، وتؤخر تنمية المجتمع بشكل أعم.

... إنَّ من الملاحظ أن مباني الوزارات تتطور كصروح حديثة الطراز دون أن يصاحبها تزامنٌ حقيقي في تطوير عاملين مهمين هما: العامل البشري والعامل التقني..!! تصرف الأموال الباهظة على بناء صرح عظيم لوزارة أو مؤسسة، ولكنَّ الموظفين هم الموظفون فلا يشكل الانتقال شيئاً يذكر إلا انتقالاً من مبنى قديم إلى مبنى حديث، لكن هل قامت الوزارة أو المؤسسة بعملية انتقال فكري وعملي يشمل تغيير عقليات الموظفين ببرامج ممنهجة تتزامن مع البناء المادي؟! هل قامت بتغيير نظم العمل الورقية إلى نظم إلكترونية، وتغيير آليات العمل المتبعة؟! لا أعتقد أن ذلك ما يحدث وإن حدث فعلى نطاق محدود جدًّا..!! فكيف يمكن لمؤسسة أن تتطور في أدائها دون تطوير موظفيها وهو أساس التطوير؟!

في عالم اليوم خرجت الإدارة الحديثة بمفهوم "رأس المال الفكري" (Intellectual Capital)؛ للإشارة إلى العمل البشري كفرد له قدراته المعرفية المهارية والخبرات المتراكمة في عصر اقتصاد المعرفة. أما في مجتمعاتنا فهو عاملٌ لا يزال معطلاً تمارس عليه الإدارة التقليدية أدوار التحجيم والتقزيم والاستخفاف لتصيبه بالبلادة حتى الشلل..!! إما بإقصائه أو تعطيل قواه الفكرية، الإبداعية، أو إبقائه على وضعه دون تطوير..! هذه منهجية لابد من تطويرها لإصلاح الإدارة؛ إذ لا يُمكن أن يكون هناك حديث عن ترهل أداء في وزارات حكومية ويتم تجاهل أهم هذه الأسباب وهو عدم تصحيح النظرة نحو الموظف، وطريقة العمل الإداري فيها!

إنَّ النظام المتبع للمكاتب المفتوحة في بعض الشركات العالمية مثل "الفيسبوك" -وقد رأيت على شاكلته في عدد حصري جدًّا لدينا- هو نظامٌ يحث على اتباع نهج إداري يتسم بالعمل وفق منظومة الفريق الواحد إدارةً وموظفين، ويشجع على الإنتاج وعدم إهدار الوقت فيما لا ينفع من المحادثات أو الاشتغالات. لكن يبدو أننا نميل إلى الإدارة التي تفضل "التحصن الإسمنتي" في صناديق تشبه السرادق، ليستقل كل واحد بمكتبه الخاص حتى لتمضي أيام عديدة دون أن يرى الجار جاره في المؤسسة الواحدة!! لقد وجدت أن ذلك من أسباب الجفوة، وضعف تناقل المعلومات، وعدم الشعور بالسعادة في البيئة العملية وتلك من مهيئات العمل الإداري الذي ليس عملاً فكرياً محضاً، وليس تخطيطاً استراتيجيًّا صرفاً وإنما هو مزيجٌ منه مع الظروف المهيئة لنجاحه أو لتعثره، والموارد التي تتاح له!

وإذا كنا نطمح إلى نتطور إداريًّا؛ فإنه لا ينبغي لنا أن نجري وراء هذا المعهد أو تلك المؤسسة التدريبية في تخبط لا ينطلق من إستراتيجية عليا، وإنما علينا أن ننظر إلى تجارب دولية مرموقة كماليزيا وسنغافورة والبرازيل وكوريا الجنوبية؛ لأنها حققت تقدماً واقعيًّا وليس مجرد ثرثرة في علوم الإدارة وفلسفاتها كما يحدث في ميدان الإتجار بالعلوم الإدارية في جامعات ومؤسسات عربية لا تكسب مغنماً أكثر من شهادة ورقية!

إنَّ المفاهيم السائدة لدينا ليست بعيدة عن قول (Peter Drucker): "أغلب ما نطلق عليه إدارة ينطوي على إعاقة البشر عن القيام بأعمالهم"..! ولهذا؛ فإن علينا أن نواجه أنفسنا بالأخطاء، وأن نتعلم من الآخرين، وأن نبدأ التطبيق العملي دون تبجح وتسويف.

تعليق عبر الفيس بوك