الشرنجبان والأشخر

عائشة البلوشيّة

أحس في أحايين كثيرة - وبسبب غرابة الأسماء- أنّ متابعي سطوري يصابون بمزيج من مشاعر الدهشة والاستغراب والفضول عند قراءة العناوين، واستغربت أن عددًا من أبناء جيلي أرسلوا يسألونني عن شجرة الحبن، وما هي، فأرسلت لبعضهم الصورة والبعض الآخر أرسلت لهم حسابي في التويتر(Aasb171Al) ﻷنني أرفد جميع المقالات ببعض الصور الشارحة..

هل جرّب أحدكم عصيدة الشرنجبان؟ حقيقة حتى محدثتكم لم تجربها، ولكنني أعرف هذه الشجيرة الصغيرة وثمرتها ذات اللون الأصفر الفاقع الجميلة، وهي شجيرة ذات أشواك محجنة من فصيلة الباذنجان، ولكن ثمرتها تشبه ثمرة "اللومي" العماني تمامًا، غير أنّ قشرتها ملساء تمامًا، وتبدو إسفنجيّة اللب مع بعض البذور الصغيرة جدًا، وهي شديدة المرارة، وأتذكر جيدا أنّها كانت تنبت في "عابية عبيد" لدينا بكثرة، وكم كنت أحب شكلها اللطيف جدا، لكنني لا أقطف الثمار إلا في حالة واحدة فقط، إذا أصيب أحد أصابعي بـ"الداحوس" وامتلأت صديدا، يأمرني جدي رحمه الله بإحضار إحدى تلك الثمار الناضجة، وينزع منها ذلك الجزء الأخضر، ويلبسها للأصبع المصاب، ولا أنسى مرة بأنني كنت أحس بنبضات قلبي في أصبع قدمي لشدة الألم، بعد أن أدخلها في تلك الثمرة ليلا، وفي صباح اليوم التالي كان كأنّ شيئا لم يكن، حيث شفي أصبعي..

ويعد ماء ثمرتها من أكثر الثمار سميّة في منطقتنا، وتعرف في العديد من الدول بـ"الحدق"، أمّا في اللغة المهرية في جبال ظفار فتعرف بـ"الحوقوت"، ورأيت الكثيرين لدينا يستخدمون هذه الثمرة لهذا الغرض، ويبدو أنّها تحوي على مضاد حيوي طبيعي قوي جدا، لكنني كبرت وسمعت عن عصيدة الشرنجبان التي تعد كدواء وعلاج لبعض الطفيليات الباطنية، وتعزز مناعة الجسم، بحيث يخلط اللب مع العسل والقليل من الدقيق ويطبخ؛ ومن أهم استخدامات الشرنجبان أنّ لبّه كان يعجن ويوضع على الجلود ويترك لثلاثة أيام فيسقط الشعر عنها تمامًا، ثم يقومون بدباغتها، ولكنّه لا يستخدم للجلود التي تستخدم لحفظ الماء أو الدهن أو اللبن، ويعرف الشرنجبان في مصر والقدس باسم الحدق، ويوجد بكثرة في أريحا وله استخدام آخر، حيث كان يستخدم قديما مبيضا للملابس عند غسلها، وكانت أوراقه أيضا تستخدم ضمادا للجروح؛ وقد سالت جدتي أطال الله في عمرها يوما عن كيفية علاج أسنانهم قديما إذا نخرها السوس، فقالت لي بأنّهم يجمعون عددًا من ثمار الشرنجبان الناضجة، ويضعونها مع مقدار من الماء ويقومون بطبخها، ثم يضعون قرنا مفرغا أو قمعًا على البخار المتصاعد من الخليط وهو على النار، ويوجه البخار عن طريق القمع نحو الضرس المطلوب علاجه، فتتساقط الطفيليات ويزول الألم تماما!!...

أمّا الأشخر كما نسميه في ولاية عبري، وغالبية وﻻيات السلطنة، أو العشر كما يعرف علميًا، رغم زهوره البنفسجية اللون، وولعي الشديد بشكلها الجميل، وثماره التي تأتي في أزواج، والتي تمتلىء بخيوط حريرية ناعمة جدا، لم أكن ﻷقترب منها، ﻷنّ جدتنا الغالية أفهمتنا بأننا سنفقد أبصارنا لو لمسنا أوراقها أو زهورها، وذلك بسبب المادة الحليبية التي تخرج منها عند خدشها أو قطفها، وهم لا يريدون منّا الاقتراب منها والعبث بها فنقوم بكسر الأغصان أثناء عمليات قنص الفنازيز واللعب العجيبة التي كنا نقوم بها، فحطب الأشخر معروف، ومهم جدا في الحروب قديما، حيث إن فحم حطب الأشخر يتم خلطه بملح البارود والكبريت، لصنع الذخيرة؛ وللأشخر استخدامات طبيّة منذ الحضارة الفرعونيّة، في الخلطات المضمدة للإصابات، كما أنّ المادة البيضاء الحليبية التي تخرج عند قطف ورقة أو زهرة هي أنجع دواء لإخراج أي جسم غريب يدخل إلى الجسم كالشوك وغيره، حيث توضع تلك المادة الحليبية السائلة مكان الشوكة التي باغتت القدم على حين غفلة من لعب طفولي، لمدة ليلة كاملة، لتخرج الشوكة في صباح اليوم التالي مستسلمة لليد التي تسحبها، كما أنّه مفيد جدا للثآليل ويسقط الباسور، أمّا ورق الأشخر فهو أفضل الكمادات بعد تسخينه على النار ووضعه على مكان الرضة، ويبدو أنّ تسخين ورق الأشخر يؤدي إلى تفاعل المواد الكيميائية فيها وتصبح هينة لينة، وتختفي تلك السمية التي قد تعرض الجسم ﻷي نوع من الخطورة، لتستخدمها النسوة في غرض مهم جدا، حيث كانت جداتنا قديما يستخدمن ورق الأشخر المحمي على الجمر ككوافيل نباتية (حفاضات) للمواليد الصغار، حيث لا تسبب هذه الأوراق أي أذى أو تسلخات للرضيع، وفي الطب القديم كان يستخدم لبعض الأمراض الجلدية بعد طبخ أوراقه، ما استغربه حقيقة هو أنّ هذه العلاجات اختفت، ولم يفكر أحد في إحيائها، رغم نجاعة ترياقها، فمثلا في الهند والصين نجد أنّ هذا النوع من السياحة للطب البديل مزدهرة جدًا.

إنّ للأشخر الذي نمر به اليوم هناك وهناك دون أن نعيره أدنى التفاتة أهميّة اقتصادية، فهو علاوة على الاستطباب بورقه وثماره وأغصانه، التي تدخل في علاج الكثير من الأمراض ويأتي الربو الشعبي على رأس قائمتها، يحتوي على إنزيمات مهمة جدا مثل إنزيم الببسين الهاضم للبروتين، والكاوتشوك الذي يدخل في صناعة المطاط، وقد استغلت بعض العقول عدم حاجة هذا النبات للماء، فالعجيب أنّه يموت إذا تم ريه، وزرعوه في أفدنة هائلة، وذلك لما وجدوه من أهميّته في إنتاج الألياف الحريرية التي تضاهي الكتان متانة، وهذا ما نجده اليوم في جزر الهند الغربية وأمريكا اللاتينية..

سبحان الخالق جلّ في علاه، الذي أنعم على الإنسان، هذا المخلوق الضعيف بالعقل، ليستخدمه في سبر أغوار المجهول، والتجربة لكل ما حوله من مخلوقات، ليسخرها لخدمته وراحته ورفاهيته، فمن كان يعتقد بأنّ الحياة قديما كانت عصيبة ومقيتة، قد أخطأ عظيم الخطأ، ﻷنّ الإنسان يتشبث بالحياة و يكيف نفسه ويأقلمها على جميع الظروف، فمن الدواب إلى المركبة الفارهة، ومن المسافات الشاسعة إلى الطائرات النفاثة، ومن القيظ اللافح إلى مكيف الهواء، ومن زمهرير البرد إلى دفء المدفأة، هي خطوات بين كل بداية والحالة التي وصلت إليها الآن، ولكن الخطورة العظمى تكمن عندما نركن إلى الدعة والترف الباذخ، لتتعطل جميع الحواس المنتجة لدينا، ويتخم العقل بأنّ كل شيء سهل المنال وحاضر وموجود، فنصور لذواتنا سرمديّة الحالات المريحة، ولا ننتبه إلا إذا جاءت الطامة، ولنا في التأريخ عبر ومواعظ كثيرة؛ إنّ الخير في بلادي كثير، وولي أمرنا يحفظه الله ذلل لنا العوائق، وتبقى إرادة الإنسان العماني هي الفيصل..

توقيع: "يقال إنّك لتجد لذة السعادة ﻷمر ما يجب أن تتعرف على نقيضه، فلا يعرف قيمة الصحة إلا من ابتلي بالمرض، ولا يعرف نعمة الأمان إلا من ابتلاه الله بالتشتت والحروب؛ فاللهم أدم علينا نعم الأمن والأمان والاستقرار والرخاء".

تعليق عبر الفيس بوك