"الربيع العربي".. وتأريخية الاستعمار الجديد

يونس البوسعيدي

لم يأت في التاريخ البشري أي استعمار بمحض الصدفة، أو بغير ثقافة "سادية" فالاستعمار بكل أشكاله يمر بأيديولوجيات استعمارية، وقد كشفت الأيام والحقائق أنه لم يوجد في التاريخ أي استعمار سلمي، وإذا كانت الأديان التي تسمي نشر معتقداتها بمصطلح (فتوحاتها أو عمليات تبشيرها) اضطرت كما تزعم للحرب، فكيف بالقوة السادية التي راودها حلم وضع القمر في شباكها.

يعرف "جورج ليسكا" الاستعمار ببساطة "هو نظام التفوق، التسلط، السيطرة" ولا يختلف "مورجانثو" عنه حين يقول إنّ "الاستعمار لا يخرج في حقيقته عن كونه أحد مظاهر التسلط السياسي أو الاقتصادي أو العسكري أو الثقافي أو الحضاري الذي تمارسه دولة على غيرها، وغالبا ما يكون الهدف منه الاستغلال الاقتصادي للدولة المستعمرة، وتسخير إمكانيّاتها الطبيعيّة ومواردها البشرية لرفع مستوى الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية للدولة ذات النفوذ الاستعماري" نظريا تستطيع العين المجردة أن ترى هذا التعريف بدأ بالانزياح تدريجيًا في مآل المنفعة وبتركيز أكبر لآليات الاستعمار، وتجلى هذا في استعمار القرن الحادي والعشرين الذي يجمع المفكرين السياسيين أن له غايتين مهمتين دون غيرهما هما تشكيل خارطة الشرق الأوسط الجديد، وعملية (تبشير مسيحية أو تهويد) - وهذا ما حدث مع بعض النازحين من بلدانهم لأوروبا بسبب الحروب الناتجة من الربيع العربي- وبهاتين الغايتين تتكون المنافع الاستعمارية الباقية، وقد بدأت تذهب براميل نفطه، ومبيعات أسلحته إلى جيوب (عصبة) تدير الحرب الاستعمارية الجديدة، وبآلية عارية أكثر، لكن بوسائل ضغط وتخدير أقوى.

تشتهر الوسيلة العسكرية أنّها أبرز وأعتى وكذلك أضعف وسائل القوى الاستعمارية، فهي تضرب بيد من موت، لكنها في الحين نفسه لا تملك وسائل الملهاة أمام خيار الكبس، مما يثير الشعوب بسرعة ضدها لأن الضغط يولد الانفجار، وهي قد تشكل الزناد والفوهة للاستعمار، إنّما "مخزن الرصاص" هو الاستعمار الاقتصادي، الذي كان أشهر أقنعته في الحفلات التنكريّة هو "استعمار الدولار"، كما أنّ هناك الاستعمار الخفي كتنصيب حاكم وفق تفصيلات الغرب، بعد أن تربى في مزرعته، لكن ما بدأنا نشاهده ببجاحة وفجاجة هو صراع الثيران الإخوة، كما تحكي الطرفة العربية القديمة، فالثوران الأحمر والأبيض يأكلان الأسود، من ثم سيصرخ أحدهما (أكلت يوم أكل الثور الأسود).

ليس من باب الإيمان بنظرية المؤامرة حين يطرح السؤال نفسه: ما هي قوة الدهاء الفذة التي امتلكتها إسرائيل والعقل الغربي عموما كي يدوخوا بوصلتنا ويخدروا نباهتنا، شر البليّة ما يميت لا ما يضحك إذا تذكرنا أن بعض الأفلام الهوليودية منذ فترة التسعينات، وبداية الألفيّة كانت تتحدث عن خطة تقسيم المنطقة العربية، في تلك الأفلام كانوا يذكرون "سايس بيكو الجديدة" ، ثم بعد فترة جاءنا مصطلح "الفوضى الخلاقة" من فم رامسفيلد وزير خارجية جورج بوش الابن، لتتم خليفته "كونداليزا رايس" إخبارنا بـ "الشرق الأوسط الجديد" لكننا في غفلة سادرون.

يبدو أنّ ما يعرف بالربيع العربي كان ضمن الاستراتيجيّات الاستعماريّة الغربية للمنطقة، وهنا لا أفرق بين أنظمة الحكم والشعوب، ما دام الأمر استراتيجيّة استعمارية تضاف لما انكشف من الاستراتيجيات السابقة مثل ( ثورات التحرير العربية،"التي سرقت" والحروب الباردة التي بسببها تكتلت الدول، وانطلت عليها بعد ذلك الانحياز وعدم الانحياز) وكل هذا كان كحركة الماء في الدلو، لا تتعداه بين الخوف وبين تسكين انتفاضة المذبوح، لتحقق تلك الدول المستعمرة "فكريا" مصالح الدول المستعمرة، والآن بعد قرن كامل ونيف ربما نستطيع التأكيد أن الاحتلال الفكري لم يبارح جماجمنا. العقلية الغربية صبورة في التجريب، تتجرد من حصر الدولة والحكم في فرد أو نظام فرد فقط، وبالطبع هذا الكلام لا يبيض ساحتها، إنّما القصد أن "علي بابا" يأخذ نصيبه، ليتداول أحد الأربعين لصًا مكان علي بابا، المهم أن يتم اللصوص دور "روبن هود" في عباءة الصعلوك العربي، في حربه لأجل لقمة الفقراء، أضف للقمة هنا الدفاع لراية الحرية والعدالة للشعوب المهضومة الحقوق، إنما بتفصيل من "زرق ورق" أي بهرج خداع، ولأنّ العقل الغربي صبور فهو يمارس بعري فج تجاربه الحداثية في احتلال الشعوب، فمنذ (Operation Northwoods) في ستينيات القرن الماضي التي بسببها احتلت كوبا، مرورًا على (Stay Behind) لمكافحة النفوذ الشيوعي، والتي لحقها كذلك ما عرف بـ"استراتيجيّة الاضطراب" التي خلقت التوتر والعنف لأجل ضرب المعسكرات اليسارية بالحكم العسكري، جاءت ما يعرف بـ"الفوضى الخلاقة" وهي تطبق سياسة "الراية الخادعة" هذه السياسة التي نعيشها نحن الآن بكل أبعادها وتجلياتها.

السكين التي تقطع كعكنا الحجري الآن هي سكين "برنارد لويس" الذي قدم فكرة تفكيك الشرق الأوسط، وقدمه للرئيس الأمريكي كارتر عام 1983م ووافقوا عليه في "ملفات السياسة الأمريكية الاستراتيجية الخارجية"، ولنركز لطفًا على كلمة الاستراتيجيّة، ومنذ ذلك الحين خططت لتكون فوهات بنادقنا فوق صدورنا، لكن البنادق ليست من صنعنا، نحن الآن نتحارب على اللاشيء، على مذهبية غير موجودة في ديننا أصلا، فكانت الراية السوداء، وكان التشويه في التفكير الذي قاد للتكفير، وكل هذا تحت رايات مخادعة، وكان الإعلام هو الهواء الذي خفق بتلك الرايات، ولأنّ الغرب كما أسلفنا ذو استراتيجيات طويلة المدى، فإن نظرياتهم يتاح لها من التخمّر والصنع مساحة ومسافة للانقضاض في الوقت المناسب على أهدافها، وهنا استشهد بما قاله الكاتب سليم مطر في كتابه "أخطر أسرار الاستراتيجيّة الأمريكية في العراق والشرق الأوسط" من مذكرات الرئيس الأمريكي ريغان قوله :" إن فشلنا بحرب فيتنام كان بسبب الإعلام، لذلك فقد دخلنا بقوة باستخدام وسائل الإعلام في التأثير الحاسم على الحكومات والتحكم بمواقف الشعوب" إنما توهت عدسة الإعلام ومكبر صوته بعد الربيع العربي، فمذ كان في بداية الألفية هو الدافق الأول لقضية فلسطين، أنسينا بمشاهداته (التحريضية وقد لا يشعر) أخبار إسرائيل في فلسطين، لأن أخبار ما بعد "الربيع العربي" هي التي صارت تتصدر نشراته.

هذه الأحداث تحتاج لتأمل، "أحداث ما بعد الربيع العربي.. من صنعها ويحركها؟ التفكير الجماعي للشعوب والانزلاق في أتون ومستنقع الطائفية من يؤججه وكيف؟ الإعلام كيف اجتذب فصار محرضا علينا لا لقضايانا؟ أين هي استراتيجيّاتنا القومية لنعود كأمة واحدة إلى مشتركاتنا التي تجمعنا وليس إلى ما يفرقنا؟

تعليق عبر الفيس بوك