هل نحتاج إلى وزارة لتطوير التعليم؟ (2 من 9)

مرتضى بن حسن بن علي

"كيفما يكون التعليم يكون المجتمع، وكيفما يكون المجتمع يكون التعليم".. التعليم بمعناه الواسع يتخطى "صقل" القوى العاملة من الناحية الفنية، أو ظهور طبقات من ذوي المؤهلات العلمية والفنية والمهنية العاليةً، بل ينطوى التعليم -علاوة على كل ذلك- على استيعاب عميق عن أسباب التغيُّر في عالمنا ولمشاعر الناس والثقافات الأخرى تجاه تلك التغيرات، وما هي القواسم المشتركة بيننا جميعا؟!

فعملية بناء القوى البشرية عملية بالغة التعقيد، وهي بطبيعتها عملية تراكمية. والنظام التعليمي والتدربيي يعتبر المعني الرئيسي لبناء الإنسان، وتنمية قدراته العقلية والفكرية والسلوكية والقيمية، وتنمية الشعور الوطني العابر لكل الولاءات الفرعية الأخرى.

والتعليم الذي يستقبل الإنسان الصغير من الروضة، وهو ابن الثالثة، إنما يرتبط به هذا الإنسان الصغير أكثر من ارتباطه بالمؤسسة الأم، أي المنزل والأسرة. فهو الذي يؤثر عليه أكثر من مؤسسات المجتمع الأخرى، لكن بعد سنين تتراوح بين سبع عشرة سنة إلى ثلاث وعشرين سنة، عندما يلقي بالمتعلم في معركة الحياة وميدان المنافسة. وتقدم المدرسة النقدية في علم اجتماع التربية، أكثر الرؤى شمولا، سواء في فهمها أو تحديدها لأبعاد النظام التعليمي وعلاقاته، أو مضامينه، أو بتحليلها أدواره المختلفة أو تفسيرها أوضاعه، من خلال أسس تاريخية جدلية شاملة، مرتبطة بسياق بيئته الاجتماعية، وعلاقاته الخارجية: "إنه كما يكون المجتمع يكون التعليم، أو كما يكون التعليم يكون المجتمع"، بمعنى أنَّ حال التعليم يكون حصادا لمجمع العلاقات الجدلية التي يدخل التعليم طرفا أساسيا فيها.

وحسب تلك الطروحات، فإنَّ التعليم في شموله، لا يقتصر على فئة عمرية محددة من عمر الإنسان، كما أنه ليس في حال محدد هو التمدرس؛ فحاله يتجاوز التمدرس أو المدرسة، ليمتد إلى العمل والممارسات الحياتية اليومية. لهذا؛ يُعتبر المجتمع بكل نشاطاته الاجتماعية مدرسة كبيرة، تمارس من خلالها خيارات التعليم المختلفة. وليس ذلك بشيء جديد؛ إذ كان المدرس يردد على مسامعنا ونحن صغار "العلم من المهد إلى اللحد". فالتعليم والتدريب يساهمان في نمو المستقبل عن طريق تحسين نوعية العمل؛ وبالتالي فإنَّ الاستثمار الجيد في التعليم يحقق فوائد كبيرة للعامل وصاحب العمل والاقتصاد والمجتمع ككل.

وصراع اليوم في العالم ليس صراعا عسكريا فحسب، وإنما هو صراع علمي في المقام الأول، ومن يفتقده يفتقد عنصر المنافسة. ومع الأسف، فإنَّ ممارسات النظام التعليمي من داخله تفتقد إلى كل ما ذكرنا. وكل محاولات التقييم اتفقت على أنَّ التعليم يعتمد على التلقين والتعليم اللفظي والسلطوي، الذي يمحي التعليم الحديث والتعليم الذاتي والقدرة على البحث والتفكير في حل المشكلات، والتركيز على الماضي والحاضر وإغفال المستقبل. وافتقاره إلى معايير علمية موضوعية في تقييم الطلاب والمعلمين والمديرين، والقصور في التنمية الشاملة لأبعاد شخصية المعلم والمتعلم والإدارة المدرسية وديناميتها. ومحاولات التقييم التى جرت كانت تحفل بكثير من ردود الأفعال الآنية، لعلاج عوارض مشكلات محددة تطفو على سطح المجتمع، أكثر من العمل الجاد لتناول هذه المشكلات جذريا وتشخيصها.

وكنتيجة لذلك، فإنَّه يبدو من بعض الصور والممارسات المجتمعية، أنَّ كلًّا من التعليم والعمل ينقض الآخر ويحاصر أدواره. ومحدودية المهارات والمعارف التي يقدمها النظام التعليمي إلى من يتلقاه، وتعميقه غير المباشر على الأقل، للنظرة الدونية إلى العمل اليدوي، يجعل التعليم في حالات عديدة، لا يوفر ما يتطلبه سوق العمل من مهارات وكفاءات وأخلاقيات العمل. ومن ناحية أخرى، يؤدي انحسار الاقتصاد وانشغاله بالخدمات والأنشطة غير المنتجة، إلى حصول تشوهات في سوق العمل.

لم يعد ممكنا ونحن نعيش في عالم متغير باستمرار ونقترب من العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، أن نستمر بتزويد أبنائنا كما معينا من المعلومات، ثم يصبح همنا أن نختبر ونقيِّم هؤلاء الطلاب فيما حفظوه وليس فيما فهموه أو استوعبوه من تلك المعلومات.

... إنَّ هدف التعليم الحديث لأصبح مركَّزا على إكساب الصغير المهارات الأساسية، مثل القراءة والكتابة والرياضيات، وتعليمه فن الإصغاء والتحدث مع الغير، والتعامل مع الكلمة المقروءة والمكتوبة والمسموعة، في أشكال متعددة ومختلفة، وفهم الجداول والخرائط والمعادلات والرسوم البيانية. أصبح واجب التعليم تسليح الإنسان الصغير بالقدرات الأساسية في التفكير، كيف يفكر وكيف يتخذ القرار، كيف يتصور الأشياء ويتفاعل معها؟.. ثم عليه -أي الإنسان الصغير- أن يتحلى بصفات شخصية مثل الاستقامة في التفكير وحسن التصرف، والانتماء إلى الوطن والمحافظة على القوانين، ثم عليه أن يتدرب عمليا على كل هذه المهارات، ليتسلح الإنسان الصغير بعدة قدرات، القدرة على التعامل مع الموارد والمعلومات وتنظيمها وتقديمها وتوبيبها علميا، يخدم الهدف الذي يصبو إليه، عليه أن يتدرب في كيفية االتعامل مع التكنولوجيا الحديثة، وكيف يتعامل مع الآخرين، وكيف يتحدث إليهم وينصت لهم ويبني علاقات إيجابية معهم ويحترم عقائدهم، وكيف يستوعب أسباب التغييرات العميقة في العالم ويفهم النواميس الحاكمة في الكون.

appleorangeali@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك