الإستراتيجيَّة

سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (27)

د. صالح الفهدي

وَضَع المهندس المدني المشاريع أمام المدير العام الجديد، فقدّمَ هذا المشروع وأخَّر ذاك..! عاجله المهندس بالقول: لكن المدير العام السابق سبق وأن صنّفها واعتمدها وفق هذا الترتيب، فنظر إليه المدير العام نظرة متجاهلةً صاحَبَها بقوله: "انسَ المدير العام السابق"..!!

من المؤسف أن ما يفعله الأغلب هو من قبيل ما فعله هذا المسؤول، وكأنما كان الهدفُ الإطاحة بأشخاصٍ وليس تغيير نظام عمل إن كان غير ملائم؛ فالذين يختزلون الوزارات والمؤسسات والهيئات في أشخاص هم الذين يبدأون الإطاحات السريعة بالأشخاص مهما كانت كفاءتهم، وقدراتهم. أمّا أولئك الذين يقصدون تطوير هذه الوحدات فيدرسون أنظمة العمل، وكفاءات الكوادر المتوفرة، ويقيّمون الوضع الراهن والمستقبلي بفرصهِ وتحدّياته.

الإستراتيجية -وهي التخطيط السليم لتحقيق الأهداف لمشروعٍ ما- لا يمكن الاستغناء عنها أكان ذلك على مستوى تنمية وطنٍ أم مشروعٍ تحسين حيٍّ صغير، كما لا يمكن للساري ليلاً الاستغناء عن الضوء للاستدلال على الطريق؛ فإذا غابت الإستراتيجية وحلت محلها الشخصانية التي ترى الأمور وفق منظورها الضيق الذي يحيدُ عن الرؤية الأساسية للوطن، عُطلت التنمية وأهدرت موارد الوطن!

الإستراتيجية العامة لأي وطنٍ هي بمثابة الطريق الأساسي له نحو المستقبل؛ ذلك الطريق المليء بالأهدافِ والطموحات؛ فإن غامت الرؤية، وتشتت الأهداف، حاد السائرون عن الطريق، وخرجوا عن مساره، وتفرقوا في الأرضِ شيعاً..! يقول أحد المسؤولين: "إن ما نقوم به غير مبني على خطة إستراتيجية وإنما على اجتهادات فردية"..! وهناك تقع الإشكالية لأن الرؤية الشخصية لا يمكنُ لها -في الأغلب- أن تنسجم مع رؤية وطنية عامة، لها أهدافها العليا التي تأخذُ بعين الاعتبار المصالحَ العامة، وتبسطُ السياسات العامة لتحقيق العدالة الاجتماعية بعيداً عن مفاهيم المحسوبية والمناطقية والجهوية والطائفية والمذهبية...وغيرها.

بَيْد أنه لا يُغني الوطن وجود إستراتيجيةٍ عصماء، في أوراقٍ ملساء، إنما التطبيقُ السليمُ هو أساسٌ من أسس نجاح الإستراتيجية، فإن لم يحالفها التطبيق الصائب ظلت مجرد حبرٍ على ورق..! يقول أحد المسؤولين معلِّقاً على إحدى الإستراتيجيات الوطنية: لم تكن المشكلة في الإستراتيجية ذاتها، وإنما في تطبيقها على أرض الواقع..! وفي هذا يقول ونستون تشرشل: "بغضِّ النظر عن جمالية الإستراتيجية يجب أن تنظر إلى النتائج".

ولكي يتحقق هذا الأساس -التطبيق الحصيف- على الوطنِ أن يعد قادة يتمتعون بحنكةٍ، وخبرة، ودراية، وعلم من أجل القيام بهذا الواجب العظيم. إن وجود من لا يمتلكون القدرة والكفاءة والاستعداد على رأسِ مؤسسات يُناط عليها تطبيق إستراتيجيات وطنية هو أمر يعيقُ تنمية الوطن، ويعطل حركته التاريخية، ويؤخر سيره الحضاري..! هؤلاءِ إن وجدوا على سدة السلطة لإدارة شأنٍ من الشؤون، أو قطاعٍ من القطاعات، أفسدوا الخطط، وشتتوا الأهداف، وقضوا على الكفاءات، وأحبطوا كل محاولاتٍ للبناءِ المتجدد، والتنفيذ الجيد..! يقول أحدهم واصفاً أحد المسؤولين: نتحدثُ معه عن إستراتيجيات وطنية ويحدثنا بإعجاب شديدٍ عن مشاريع منزلية!

إنَّ بعضَ المسؤولين لا يكون همه الأكبر إلا تغيير الهيكل التنظيمي..!! وهي ليست مجرد جرة قلمٍ على صفحةٍ بيضاء إنما هي عملية تتطلب الكثير من الدراسةِ، ووضوح الأهداف، والزمن، والمال، وتحديد المسارات الجديدة ومدى توافقها مع الإستراتيجية الوطنية العامة. إن تغيير الهياكل التنظيمية ليس خطأً إن كانت السابقة معيقة أمام التغيير المتلاحق، والتطوير المتعاقب؛ فالإستراتيجية تعتمدُ على مدى مرونة وواقعية الهيكل التنظيمي الذي يشكل بالنسبة لها العصب الحقيقي للتطبيق، لكن أن يكون وفقاً للأهواءِ والأمزجةِ فذلك عينُ التحييد والتبديد والإهدار!!

لهذا.. لا يُمكن ضمان نجاح الإستراتيجية الوطنية العليا إن وضعت رهن أيادٍ غير خبيرة، تعوزها الخبرة، وتفتقدُ إلى القدرة، فتصبحُ الإستراتيجية رهينةُ الأدراجِ، أو متنقلةً بين مستشارٍ وخبيرٍ، ومديرٍ ووزير..!. البشرُ يتفاوتون في القدرات والملكات؛ فكلٌّ مسخَّر لما خُلق له كما جاء في الحديث الشريف؛ لهذا لا يمكن تحميل إنسانٍ ما لا يمتلكُ من الطاقات من أجل القيام بعملٍ من الأعمال ليس جديراً به، بل ولا يملكُ أدنى بديهيات الأسس فيه. يقول مارك زوكربيرج مؤسس الفيسبوك: "بعض الناس مديرون حقيقيون يستطيعون إدارة منظمات كبيرة، وأناس آخرون ذوو طبيعة تحليلية يركزون على الإستراتيجيات. ذانكما نوعان لا يتوفران عادة في نفس الشخص؛ لهذا أجدُ نفسي أكثر في النوع الأخير".

هذا الأمر يقودُنا إلى المصدر الرئيسي الذي يُشكِّل منبعَ الإستراتيجية؛ ألا وهو الإدارة الإستراتيجية التي يعرفها (William Glueck) بأنها:"سلسلة من القرارات والأفعال التي تقود إلى تطوير إستراتيجية أو إستراتيجيات فعالة لتحقيق أهداف المنظمة"، ويأتي التخطيط الإستراتيجي كفرعٍ في جذع الإدارة الإستراتيجية، إذ يقول عنه د.سعد غالب ياسين في كتابه "الإدارة الإستراتيجية": "التخطيط الإستراتيجي هو عنصر من عناصر الإدارة الإستراتيجية وليس الإدارة الإستراتيجية بعينها؛ لأنَّ الإدارة الإستراتيجية تعني أيضاً إدارة التغيير التنظيمي وإدارة الثقافة التنظيمية وإدارة الموارد وإدارة البيئة في نفس الوقت؛ فالإدارة الإستراتيجية تهتم بالحاضر والمستقبل في آن معا، في حين أن التخطيط الإستراتيجي هو عملية تنبؤ لفترة طويلة الأجل وتوقع ما سيحدث وتخصيص الموارد".

ثم إنَّ الإستراتيجية لا تقتصر على التخطيط الصائبِ، والقادة المحنكين فحسب، بل هي بحاجة إلى المتابعة والمراقبة المستمرة التي يجبُ أن تقوم بها جهة مستقلة، تناطُ عليها مسؤولية القيام بهذا الواجب الدقيق.

إنَّ الازدواجية التي تحدث بين الوزارات والهيئات والمؤسسات سببها عدم التنسيق في السياسات التي يفترض أن تخدمَ مصلحة وطنية مشتركة؛ لهذا فإنَّ غياب التنسيق بين هذه الجهات أوجد الازدواجية في الاشتراطات والإجراءات لإنجاز الأعمال، وإقامة الأنشطة، مما تسبَّب في تأخير حركة المصالح، وإبطاء عجلات التنمية. وليس من شك في ضرورة وجود التنسيق، والمراقبة الدقيقة، والتقييم المستمر لأداء المؤسسات، بل ووضع الأهداف لكي تقوم كل جهة بواجبها في الإسهام لتنفيذ الإستراتيجية العامة. يقول عبدالرحمن تيشوري عن أبرز التجارب الدولية في الترتيبات المؤسسية لإصلاح أجهزة القطاع العام: "في العام 1990م، تبنَّت كل من كندا ونيوزيلندا وأستراليا وبريطانيا إصلاحاً إداريًّا ركز على مفهوم الإدارة لتحقيق النتائج. وكان هدف مشروع الإصلاح زيادة الكفاءة والفاعلية في الأداء والإنتاجية في الأجهزة العامة، وكذلك تعزيز مبدأ المساءلة أو المحاسبة الإدارية. وكان مدخل المشروع هو الإصلاح الشامل بحيث يتم إعطاء صلاحيات واسعة لرؤساء الأجهزة التنفيذية كتلك التي تعطى لرؤساء الأجهزة في القطاع الخاص، وأن تتم محاسبتهم على النتائج".

لقد بات من الواضح أهمية أن تسير الأوطان وفق منهجية إستراتيجية مرسومة، محددة الملامح، تستوعب كافة الرؤى التي تحقق لها السيادة، والخصوصية، والتطور؛ إستراتيجية تتسم بالمرونة مع متغيرات العصر، ومقتضيات المراحل المختلفة، وفي سبيل ذلك فإن الخبراء الإستراتيجيين لا يُغنون الأوطان بتحاليلهم وفكرهم الإستراتيجي، وإنما يحتاجُ إلى تنفيذ ذلك كفاءات تتمتع بالقدرات الملائمة، والسمات القيادية التي تمكنهم من تحويل الإستراتيجيات من الورق إلى الواقع المعاش.

أُوجز القول بأننا لكي نلمس نجاحات الإستراتيجية المحكمة، فإننا سنكون بحاجة دائمة إلى ثلاثة عناصر أساسية: الفكر البناء للتخطيط الإستراتيجي، والقيادة الكفوءة، والأجهزة القائمة على التنسيق والمراقبة والمحاسبة والمراجعة والتقييم.

تعليق عبر الفيس بوك