اضحكوا وابكوا حتى تَصِحّوا!

رحاب أبو هوشر

من المؤسف أننا ورثنا الكثير من العادات السلبية، بحجة الرزانة والاحترام، فالضحك ما زال يعد عند البعض انتقاصا من قدره، وتقليلا لهيبته. أمّا إذا تورط أفراد عائلة أو مجموعة من الأصدقاء، بالضحك الجماعي لدقائق أو ربما ثوانٍ معدودة، فإنّ اضطرابا وضيقا سوف يحل فجأة، مختطفاً لذة تلك اللحظات، لمعتقدات غير منطقية تتشاءم من الضحك، وتعتبره نذيرا سيئاً، فلا بد أن تعقب الضحك كارثة! ولا بد أن كثيرين رأوا ذات يوم، فتيات أو نساء عجائز، يخفين وجوههن بأيديهن إذا ما حدث ما يستدعي أن تضحك إحداهن، أو يكبتن رغبتهن بالضحك، لأنه ما زال أمرا مستنكرا على المرأة خصوصا في القرى والمناطق النائية، وتطالها النظرات الزاجرة بدعوى الكف عن "الخفة"، بمعنى الاستهتار بالمفهوم الأخلاقي. ولا أدري إلى اليوم من أين جاء هذا الرابط بين الضحك كحالة تعكس الإحساس بالمرح والفرح، والاتهام بقلة الحياء، والاستعداد للانحراف السلوكي!

الأمر ينطبق أيضًا على التعبير عن الحزن، فالبكاء أيضا للرجال يعد عيبا، وينتقص من مقومات الرجولة في الصلابة والصرامة، فالرجل لا يبكي، وغالبا ما يتم قمعه في حالة بكائه لوفاة أحد المقربين له، بتذكيره أنّه رجل. ورغم أن فقدان عزيز ربما يكون الهامش الوحيد للرجال كي يبكوا، ليعبروا عن مشاعر الألم والحزن، إلا أنّه متاح أيضا لوقت محدود، فلا يجوز لرجل أن يطول حزنه وبكاؤه. أمّا بكاءه لفراق حبيبة أو لوداع صديق، أو لألم ما إنساني قد يعانيه الرجل، فتلك مصيبة كبرى، سوف يوصم الرجل بأنّه "يبكي مثل النسوان"!

هذا الكبت للمشاعر، وإعاقة تدفقها الطبيعي، يقود إلى أنّ كثيرين يعانون من العجز عن التعبير عن مشاعرهم، وما يسببه ذلك لهم من إخفاقات وإرباكات في علاقاتهم الإنسانية، أو لا يتقنون التعبير عنها، لا ضحكا ولا بكاء، فغالبًا ما تخرج الضحكة باهتة مترددة، تكاد تشق وجه صاحبها لصعوبة تحريك العضلات المسؤولة عن الضحك جراء عطالتها لفترات طويلة، وكذلك الوضع في حالة البكاء، فيبدو ضحكهم كأنّه بكاء، ويأتي بكاؤهم مضحكا!

ولا يشذ عن هذا الوصف من الشعوب العربية إلا المصريين. وعلى الرغم من سوء ظروفهم الحياتية بشكل عام، ونسبة الفقر العالية، إلا أنّهم صغارًا وكبارًا يتميّزون بامتلاك مفاتيح تبديد الأحزان وتجاوز الهموم، بالنكتة الحاضرة البديهة والسخرية، حتى من أحوالهم، وربما يعود الأمر إلى علاقتهم المديدة مع نهر النيل، وتقلبات مواسمه تاريخيا، وطول عمر الشقاء، مما جعلهم يمتلكون أسرار التحايل على الحياة، والضحك معها ومنها في آن!

أما الهنود فهم من أكثر الشعوب تميزًا بالعاطفة الدفاقة، وخصوصًا فيما يتعلق بالبكاء، وتعكس السينما الهندية قدرا من المزاج العاطفي لهذا الشعب. أفلامهم لا يمكن أن تخلو من مأساة، لكنها توطئة لسيل الأحزان وما يستتبعها من دموع، يبكيها كل أبطال الفيلم دون أن نلمس عوائق ثقافية أو اجتماعية أمام مشاعرهم الإنسانية. وهذا نجده في موسيقاهم وغنائهم الشجي، المترع بالمشاعر الإنسانية النبيلة. وكثير من الشعوب في هذا العالم يتعاملون مع عواطفهم بشكل طبيعي، يتركونها تنكشف وتنساب بسلاسة بعيدا عن أي قمع لها. مثل هؤلاء سيكونون على الأغلب مسالمين، فهم دائمو التفاعل مع مشاعرهم والتعبير عنها، لذا لا تتراكم في أعماقهم المرارة أو الحقد، يعيشون بسكينة نفسية ووجوه طلقة القسمات، وإن كانت ظروفهم الخارجية صعبة وقاسية.

تأسست جمعيات في بلدان عديدة، انتقلت تجاربها إلى بلدان عربية، فقط من أجل ممارسة الضحك، باعتباره نوعا من العلاج. يبدأ أحدهم بالضحك بشكل متعمد، فمن هنا يبدأ التمرين، ثم سرعان ما تنتقل العدوى إلى الآخرين، الواحد تلو الآخر، وبعدها ينفرط عقد الصرامة والجدية عن المجموعة، ليسبح الجميع فوق موجات من الضحك من أعماق قلوبهم، ضمن طقس فكاهي، يضاعف من إحساسهم بالبهجة.

تلك الجمعيات لم تتأسس اعتباطا ودون أهداف ورؤية، فالقائمون عليها يدركون حتما، ما للضحك من أهمية كبرى في حياة الإنسان، من الناحية الجسدية والنفسية، ومدى مساهمته في إزالة التوتر اليومي والهموم، وتبديد تأثيراتها السلبية ، ناهيك عن دور الضحك في تحرير الإنسان من الطاقات السلبية التي تحتبس في أعماقه، والتي تسبب له الكثير من الأمراض العضوية والنفسية. الضحك أيضا يحرر الإنسان من الآلام والمخاوف، ويزوده بالقوة في مواجهتها، حين يضحك منها ويستخف بها، فتنكمش ويمنعها من أن تحتل روحه وتثقلها.

في الأوقات التي نضحك فيها من أعماقنا، تسيل دموعنا كما يحدث تماما عندما نبكي، ويبدو أن الغدد الدمعية التي تنقي الجسم من السموم، تتلقى نفس الإيحاءات سواء في الضحك أو البكاء، أو ربما تجد طريقها إلى النشاط خلال أي محفز لا سيما وهي شبه معطلة. تحرير المشاعر الإنسانية وإطلاقها بعفوية، في الأوقات الخاصة بها دون كبت، بالغ الأهمية لتحقيق التوازن النفسي والجسدي، وأيضا لجعل الإنسان أكثر شفافية وحساسية تجاه ذاته وتجليات وجوده في هذا العالم، وأكثر تسامحا معها ومع الآخرين.

تعليق عبر الفيس بوك