تجفيف منابع الإرهاب ينبغي أن يبدأ من واشنطن

عبيدلي العبيدلي

أوَّل تصريح رسمي أمريكي في أعقاب الهجوم المسلح في مركز إنلاند الإقليمي، لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، في سان برناردينو، بولاية كاليفورنيا الأمريكية، الذي ارتفع عدد القتلى فيه إلى 14 والجرحى إلى 17، والذي يعتبره بعض المصادر "الأكثر دموية في أمريكا منذ الهجوم الذي تعرضت له مدرسة ابتدائية في ساندي هوك بولاية كونيتيكيت في 2012، وأدى إلى مقتل 26 ولداً"، جاء على لسان قائد الشرطة في سان برناردينو؛ أكد فيه "أنَّ الدافع وراء إطلاق النار في كاليفورنيا لا يزال غير معروف"، لكن مكتب التحقيقات الفيدرالي قال "إنه لا يعرف إن كان إطلاق النار في سان برناردينو بكاليفورنيا عملا إرهابيا أم لا".

وكانت تصريحات الرئيس الأمريكي باراك أوباما، إزاء الحادث هي اللافتة للنظر، فبعد أن اعترف أوباما بأنَّ "لديه القليل من المعلومات حتى الآن"، عاد كي يناشد الأمريكيين أن يعالجوا المسألة "بعيداً عن الاصطفافات السياسية"، بعد أن حذرهم من احتمال أن يكون الهجوم "مرتبطا بالإرهاب"، رغم أنه -أي الهجوم الدموي- يأتي "بعد أيام من قيام مسلح بقتل 3 أشخاص بينهم شرطي وإصابة عدد آخر في عيادة طبية في كولورادو غرب الولايات المتحدة".

ربما من المفيد هنا لفت نظر الرئيس الأمريكي أوباما إلى مسألتين في غاية الأهمية؛ أولاهما: أنه أكثر من سواه من يحاول أن يسخر الإرهاب والإرهاب المضاد اللذين يجتاحان مناطق مثيرة من العالم، والمناطق العربية هي الأراضي الأكثر خصوبة لهما. يكتفي المرء بما يدور في سوريا والعراق من مجازر، تفوق في عدد ضحاياها، وكلفتها الاجتماعية، أضعافا مضاعفة ما يحتمله المجتمع الأمريكي من عملية مسلحة هنا أو أخرى هناك، دون أن يعني ذلك تبريرنا، أو دفاعنا عن أي شكل من أشكال الإرهاب، بغض النظر عن حجمه، وبعيدا عن أي تعصب ضد الدولة التي تتعرض له. المسألة الثانية هي أن الولايات المتحدة تدفع اليوم ثمنا باهظا لسياسة تبنتها وروجت لها منذ ما يزيد على قرن من الزمان، نكتفي بسرد مختار لأبرز محطات هذه السياسة، خلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، فحسب دون الحاجة للغوص في أعماق تاريخ واشنطن "الإرهابي".

فكما تورد مصادر العديد من مراكز الدراسات الموثوقة، أن واشنطن في العام 1949 أشعلت "حربا أهلية في اليونان، ذهب ضحيتها 154 ألف شخص، وأودع حوالي 40 ألف إنسان في السجون، و6 آلاف أعدموا بموجب أحكام عسكرية (وتورد تلك المصادر، اعترافات) السفير الأمريكي الأسبق في اليونان (ماكويج)، بأن جميع الأعمال التكنيكية والتأديبية الكبيرة التي قامت بها الحكومة العسكرية في اليونان في الفترة ما بين عامي 1947 و1949 كانت مصدّقة ومهيأة من واشنطن مباشرة".

ولا تحصر واشنطن جرائمها الإرهابية على مهاجمة "مدرسة"، أو قصف "موقع"، بل إنها لا تتردد في تغيير نظام برمته كما حدث في طهران في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، عندما نفذت "وكالة المخابرات المركزية انقلابا ضد حكومة (مصدق) الوطنية في إيران، قام بالتخطيط له وتنفيذ (والإشراف عليه بشكل مباشر كيم روزفلت) حفيد (تيودور روزفلت) رئيس الولايات المتحدة (1901 ـ 1909)".

وتعترف الولايات المتحدة -في وثائقها الرسمية- أنها في العام 1964 كانت وراء "الأعمال العدوانية المسلحة ضد لاوس بهدف دعم الحكومة الموالية لها، (حيث) شارك في هذا العدوان 50 ألف جندي وضابط من الجيش الأمريكي و1500 طائرة، و40 سفينة حربية، واستخدمت أمريكا أيضا السلاح الكيماوي بصورة كبيرة".

وتعتبر الحرب الأمريكية في فيتنام وصمة عار لم تستطع واشنطن منع الكثيرين من مخرجي الأفلام السينمائية في هوليوود من توثيقها في مجموعة من الأفلام التي اجتاحت العالم خلال السبعينيات من القرن الماضي. هناك على سبيل المثال لا الحصر جرائم "برنامج فينيكس (أي التصفية الجسدية)، عندما لم يتردد كبير ممثلي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في فيتنام قَتل (كولبي) شخصيا من إعدام 1800 شخص شهريا في فيتنام الجنوبية، وبلغ مجموع ما قتله 40 ألف شخص".

وفي العام 1980، ووفقا لما ينقله العديد من الوثائق المتاحة، "نظمت المخابرات المركزية الأمريكية انقلابا بقيادة الكولونيل (أكبر توناتوش). نظم الانقلاب ونفذه مجرم الحرب الألماني (كلاوس)، الذي احتضنته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وذهب ضحية جرائمه ما يفوق بكثير ضحايا الجرائم التي ارتكبت في فرنسا أثناء الاحتلال الألماني".

وفي مطلع التسعينيات، وفي فترة انشغال الرأي العام العالمي، بمن فيه العربي أيضا، بأحداث العراق، "كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" النقاب عن استخدام الطيران الأمريكي لقذائف تحوي اليورانيوم ضد الشعب العراقي. قتل حينها الكثير من أطفال العراق بسببها. وكتبت الصحيفة حينها أن الأطفال كانوا أكثر تأثرا بهذه القذائف، لأن اليورانيوم الموجود فيها يترك آثاره بسرعة في الخلايا والهياكل العظمية للأطفال، ويقضي على الأجنة في أرحام الأمهات أيضا".

ومن المتوقع أن يشتد الجدل في الولايات المتحدة، وربما في دول أخرى من العالم التي عرفت عدة هجمات مماثلة، حول الإرهاب، ودوافعه، وحتى نتائجه، لكن السؤال الذي يحتاج إلى إجابة جريئة وصادقة من واشنطن، قبل أية عاصمة أخرى، هل بالإمكان اجتثاث جذور الإرهاب، وتجفيف منابعه، كما تدعي إدارة البيت الأبيض، طالما استمر النفوذ الذي يتمتع به اللوبي السياسي الذي تمول أنشطته شركات الأسلحة الكبرى، والتي يعمل الغالبية منها في الولايات المتحدة، التي ما تزال أكبر لاعب في سوق السلاح العالمية؟

لا بد من الإشارة هنا إلى ما أكده المتحدث باسم مكتب الكحول والتبغ والأسلحة النارية والمتفجرات في أمريكا بكون "البندقيتين والمسدسين التي تم استخدامها في الهجوم جرى اقتناؤها بشكل قانوني".

وعليه؛ فمحاربة الإرهاب تقتضي أن تبدأ معاركه ضد من ينتج أسلحة الدمار، ويجني الأرباح الطائلة من وراء بيعها، ووكر هؤلاء هو واشنطن، قبل أن تطال الأيدي من يقتنيها أو يستخدمها، دون أن يعني ذلك تبرئة هؤلاء الآخرين من أية جرائم إرهابية يقومون بتنفيذها!

تعليق عبر الفيس بوك