نثر الأيام العادية

أمل عامر السعيدي

في هذا المقال سأتحدث عن أربع روايات آسرة، "زمن تنهيدة" لآن فيليب، "غرفة مثالية لرجل مريض" ليوكو أوغاوا ورواياتها الثانية "حوض السباحة"، ورواية "احتلال" لآني آرنو.

ما يجمع هذه الروايات الأربع كما هو واضح صديقي القارئ أنّها لكاتبات نساء أولاً، وثانياً أن الأعمال الأربعة تتناول مواضيع قد تبدو أنها قضايا صغيرة، لا تجيب على الأسئلة الكبيرة كما يسمي البعض مجموعة من الأسئلة الوجودية، لكنني أراها خلافاً لذلك تماماً، فهي تتقاطع تماماً مع بنية الإنسان، وذلك الخفقان المستمر في صدره، ذلك الذي يجري في دواخله من أجل أن يستمر على قيد الحياة. لكنها لا تستخدم لغة تقريرية، ولا تقدم نفسها إلا بصفتها قصصاً لشخصيات واقعية، نكاد لا نخلو من كثيرٍ منها. هذه الشخصيات لا تلعب أدواراً بطولية أو استثنائية، إنها مأخوذة تماماً من رجل يمشي في الشارع متجهاً إلى عمله، من امرأة ترتب الأوراق على مكتبها في العمل في صباح يوم جديد، من طفل يتنزه بعد المدرسة، أعني أن الأدوار التي تلعبها الشخصيات في هذه القصص مأخوذة بمقاسها الحقيقي من حياتنا هذه. دون الحاجة لإظهارها متفوقة، أو بالغة البساطة أو التعقيد، دون الحاجة لأن تكون متكلفة، والأهم أن الكاتب لا يحمل هذه الشخصيات دوراً درامياً يسعى من خلاله لإيصال رسالة ما، دون أن يتفق هذا الدور مع خصائص هذه الشخصيات وتركيبتها.

ففي رواية "زمن تنهيدة" تتحدث الكاتبة عن فقدانها لزوجها بعد موته، وطيلة هذه الحكاية نعيش معها مواجهتها لهذا الفقد وحياتها في نفس الأماكن التي قضت فيها وقتاً طيباً مع زوجها الراحل. لا يغيب عن بالي ذلك المشهد الذي تقول فيه الزوجة : "مر الزمن والأطفال ولدوا. وهذا مساء كغيره من المساءات. انتظرك. لم أكن أميز شخير محرك سيارتنا وحسب، وإنما أيضاً طريقتك في التسارع أو الإبطاء في أماكن بعينها، وتبعاً لمزاجك. وعيناي مغمضتان، أسمع كل حركة تصدر عن الليل. ها أنت هناك، تتوقف لتفتح البوابة الشبكية دون صرير، ثم لا تعيد إغلاقها، إذن فأنت متعب. عجلات السيارة تصر على الحصى، أضواؤها تداعب المصاريع المغلقة. تتحدث إلى الكلب، تتسلق الدرج، تخلع نعليك كي لا توقظني. تدخل ها أنت. ها نحن موجودان." في هذه القطعة البديعة التي اقتبستها للتو من الرواية، نلمس حب الزوجة دون أن تصرح لنا بالطريقة الاعتيادية، هي لا تقول أحبك، لكننا نحسها، ونكاد نشعر بأننا في هذا الموقف عندما تقول إن وجودها ووجوده متوقف على اجتماعهما معاً، نعم فهي تقول " تدخل.. ها أنت. ها نحن موجودان". إنها لا تعني الوجود بمعناه الحسي فقط، بل أن نوجد في العالم بثقلنا الملاحظ، بأفكارنا، برغباتنا، بشعورنا الغامر والمستفيض بأننا هنا، واعين بأنفسنا، لسنا كرقعة تحملها الريح وتطيح بها ذات اليمين وذات الشمال، بل إنني أراك وها أنت تراني. كم من شركاء يعيشون اليوم معاً تحت سقف واحد، لكن واحدهم لا يرى الآخر؟، كما لا يحقق ذلك الشعور المتأكد والواثق من وجوده ثابتاً في أرض مستقرة لا ينقصها شيء، أرض مستعدة دائماً للإخصاب والتجلي. في كل الرواية، لا نحتاج لحدث فارق، فنحن منذ السطور الأولى نعرف أنها ستفقد زوجها، ثم نخوض معها رحلة مع روحها الملتاعة، ورقة وصفها لما تحس به.

أما الرواية الثانية وهي احتلال لآني آرنو، فهي ومنذ السطور الأولى أيضاً تقدم لنا القصة، امرأة تشعر بالغيرة من شريكة صديقها السابق، والذي جمعتها به علاقة استمرت لست سنين. سرعان ما نكتشف أن هذه السيدة، مثقفة، وجميلة، لكنها تمتلك الشجاعة والجسارة والصدق لأن تقدم لنا قصة إحساسها بالغيرة الشديدة بصدق كبير قد لا نتوقعه كثيراً هذه الأيام. إنّ هذه القصة لا تتعرض لموضوع الغيرة دون أن تدخلك فوراً إلى حسابات مهمة من قبيل رغبة الإنسان في إيذاء إنسان آخر لأنه يرغب في ذلك؟ كيف أن الشعور بملكية شيء قد يدفع الإنسان للتفكير باقتراف جرائم بشعة. وكيف أن الحب قد يدفعنا لاكتشاف مناطق مجهولة في أنفسنا تركها الزمن إلى مشرطٍ كهذا. الملهم أن هذا كله لا يتم عبر أحداث فارقة أيضاً ولا إيقاع جديد تحاول الكاتبة اختلاقه من أجل إيهامنا بأن الحياة تتحرك فيما هي في الحقيقة ساكنة، تسير ببطء الى مصيرها. إننا نصحب السيدة الجميلة في رحلة بحثها عن هوية شريكة صديقها الجديدة، وبحثها الدؤوب عن أي معلومات تخصها عبر الإنترنت، تباً، لن تتخلص أبداً من ذلك الالتحام الحقيقي الذي ستحس به مع هذه الشخصية لفرط صدقها الكبير حتى وإن كان مستفزاً ومنفراً.

وبرهافة عالية تبدأ الروائية اليابانية يوكو أوغاوا روايتها "غرفة مثالية لرجل مريض" بهذه الجملة الافتتاحية : "حين أفكر في أخي الأصغر، يدمي قلبي كرمانة مفلوقة، أسال في سري لماذا، ربما لأننا كنا اثنين لم نحظ بالكثير من العطف من أبوينا" وطيلة هذه الرواية نقرأ نثراً أثيراً، يصيب الحياة اليومية بذلك الاحتواء بالغ الالتفات لكل شيء، فهذه السيدة ترى أن بداية الحب يشبه الإمساك بجسد طفل صغير نيء، وتشرح لنا موقفها من زوجها عبر طريقة تناوله للطعام. لا استطيع أن أنكر أنها واحدة من أجمل الروايات التي أحبها بشدة ولم أكن أعرف هذه الكاتبة لولا حبي للشاعر اللبناني الراحل بسام حجار الذي ترجمها. وروايتها الثانية "حوض السباحة" تتحدث عن فتاة لا تحب بيت عائلتها، وتغرم بفتى يتيم رياضي ستأويه المؤسسة التي تسكن فيها مع والدها وهو رجل دين. لكنه ليس حباً كذلك الذي تقصه لنا القصص عادة، بل هو محاولة واثبة في سبيل إشباع هذه الفتاة لحاجتها التي افتقدتها، تلك التي أشعرتها أنها لا تعرف أي شيء ولا تستطيع القيام بأيّ شيء.

أريد أن أقول أشياء كثيرة عن هذه القصص، سأفعل يوماً ما، أما هي الآن فتذكرني بشدة بفيلم أحبه اسمه "جلوريا" تم إنتاجه عام ٢٠١٣ من إخراج المخرج التشيلي سيباستيان ليلو وبطولة باولينا جارسيا، عن سيدة تمر بأزمة منتصف العمر، وقضيتها الكبيرة هذه، تدفعها للغناء في السيارة في طريقها للعمل، هكذا ببساطة، فحياتنا لا تتوفر فيها الذروة بالضرورة، وإحساس الإنسان بأبسط رغباته صنع التاريخ لو أننا تأملنا الإنسان عن قرب.

amalamer128@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك