حاتم الطائي
تعيش بلادنا هذه الأيام أجواء استثنائية مِلؤها الفرح والابتهاج، وتشهد في مختلف أرجائها ملاحم من الولاء للوطن، ولقائده المفدى؛ الذي لم يدّخر وسعًا في سبيل النهوض بعمان، للوصول بها إلى المكانة التي تليق بعمان المجد بين الأمم؛ اتساقًا مع ماضٍ حضاري مُشرّفٍ، وعطفًا على واقعٍ حافلٍ بالإنجازات التنمويّة على الصعيد الداخلي، وزاخر بالمواقف المشرّفة على الساحة الدوليّة؛ من خلال إسهام لا تخطئه العين في تدعيم أركان استقرار المنطقة واستتباب السلم العالمي.
إنّ الاحتفالات التي تعم السلطنة؛ تعبيرًا عن مظاهر الغبطة، ومشاعر السرور التي تعتمل بها دواخل العمانيين بهذه الذكرى الغالية لعيد الوطن، وتجسد التلاحم العظيم القائم بين القيادة والشعب، في لحمة وطنيّة متماسكة ومتآزرة؛ هو مشهد يندر أن نجد له مثيلا في عالمنا المعاصر، والذي يعج بأشكال الاضطرابات والفتن.
وتعكس هذه الاحتفالات الحافلة باللوحات الوطنية الإبداعية والمعبرة روح الإصرار، والعزم الأكيد، والإرادة العظيمة على أن تمضي هذه المسيرة الظافرة نحو تحقيق المزيد من أهدافها السامية؛ من أجل أن تحقق عُمان بسواعد إنسانها الأبي المزيد من المنجزات المستدامة، حتى تواصل بلادنا سيرها صوب مرافئ التقدم والازدهار، وحتى تقطع سفينة النهضة أشواطًا إضافية نحو الأفق الحضاري المشرق؛ تأسيسًا على رصيد حافل بالإنجازات التي تمّ تحقيقها خلال مسيرة 45 عاماً من البناء والنماء، استهدفت ابتداء بناء الإنسان من خلال تسليحه بالعلم والفكر المُتقدم والنهوض به في شتى المجالات والميادين.. مما هيأ المواطن لأن ينهض بواجبه في التنمية، ويقوم بأدوار جوهريّة في مسيرتها الرائدة من خلال العمل الجاد والإرادة القوية، يدفعه إلى ذلك حس وطني عال بضرورة أن تتبوأ عمان مكانتها بين الأمم، وترفرف راياتها عالية خفاقة في كافة المحافل الدولية.
إنّ ما تحقق على صعيد بناء الإنسان في عمان ليس بمستغرب، في ظل الحرص السامي لجلالة القائد المفدى على الاعتناء بالتنمية البشرية، وإيلائها ما تستحق من اهتمام، وإعطائها الأولوية منذ فجر النهضة المباركة؛ لأنّ الإنسان هو أساس التنمية وغايتها وهدفها الأسمى.. لذا كان التركيز أولا على بناء الإنسان القادر على تحمل مسؤوليات وتحديات التنمية، وتحقيق الحياة الكريمة لكل مواطن على امتداد الوطن الغالي..
ورغم أنّ عمليّة التنمية البشرية تكتسب صفة الاستمرارية، إلا أنّ ما تحقق من إنجازات في هذا المجال يدفعنا اليوم إلى الانتقال للمرحلة التالية والتي تحتم توظيف هذه الكفاءات والقدرات لمقابلة استحقاقات هذه المرحلة.. وأولى اشتراطات النجاح للمرحلة التي نستشرف آفاقها حاليا، هو "تضافر الجهود"، وهو المحور الذي أكد عليه صاحب الجلالة لدى تفضّل جلالته بافتتاح الفترة السادسة لمجلس عمان مطلع الأسبوع المنصرم.
ومن المعلوم، أنّ مفهوم التكاتف وتضافر الجهود يرتكز على الشراكة الحقيقيّة بين مختلف أطياف المجتمع بكافة مؤسساته، لتحقيق غايتين أساسيتين أولهما: الحفاظ على ما تحقق من منجز بشقيه التنموي والحضاري، وثانيهما: العمل على تعظيم هذا المنجز بارتياد آفاق جديدة من البناء يكون أساسها الإنسان المُتعلم القادر على توظيف المعرفة في كافة الجوانب الحياتية وفي مقدمتها الاقتصاد، باعتبار أنّ المرحلة تتسم بأولويات اقتصاديّة، وغني عن القول إنّ اقتصاد المعرفة يسهم في فتح آفاق جديدة للنمو والاستدامة، هذا عدا عن الفوائد المواكبة الأخرى كتوفير الوظائف وتعزيز التنافسيّة وغيرها من مفردات تقوي الاقتصاد وتدعم بنيته وقدرته على مواجهة التحديات، خاصة في ظل التحديات المترتبة على انخفاض أسعار النفط.. وعلى ذكر هذه الجزئية، أرى أننا مطالبون وكإجراء مرحلي عاجل بتبني تدابير تكفل لنا التكيّف بشكل أفضل مع هذه المستجدات الاقتصادية والتي يبدو أنّها مرشحة لأن تخيم فترة أطول مما كان متوقعا على الاقتصادات العالميّة..
في مقدمة هذه المعالجات العاجلة ينبغي أن نلتفت وبصورة أكثر جدية لتحفيز القطاعات غير النفطيّة وتعزيز أنشطتها ليكون لها إسهامها الملحوظ في اقتصادنا الوطني، كما أنّه لابد من إعادة النظر في الأولويات للفترة المقبلة وتبني تدابير عاجلة لخلق وظائف جديدة للعمانيين لمقابلة الاحتياجات الماثلة.. وتنشيط قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة كذراع إنتاجي فاعل.. ونستطيع القول إنّ من شأن هذه الإجراءات، تحويل الأزمة إلى فرصة؛ وذلك من خلال إيجاد زخم من الأعمال والأنشطة الكفيلة بدعم الاقتصاد.. وهذا لن يتأتي إلا بتفعيل دور القطاع الخاص بتذليل مختلف التحديات التي تعوق نموه، وتعرقل تمدده الأفقي والعمودي، فالملاحظ أنّ بعض كبار رجال الأعمال يحجمون عن الاستثمار نتيجة للبيروقراطية الزائدة وعدم توفر البيئة المحفزة للأعمال.. وهنا يتوجب على الحكومة القيام بدورها في تهيئة البيئة المُحفزة للاستثمار والأعمال، والتفكير بطريقة غير تقليدية لجذب المستثمرين، كما أنّه لابد أيضاً من إعادة النظر في قانون الاستثمار الأجنبي ووضع آلية واضحة لجذب رساميل مليارية وضخّها في الاقتصاد العماني، استثمارًا لما تزخر به بلادنا من مقوّمات قلّما تتوافر عليها دول غيرها من الموقع الاستراتيجي والاستقرار السياسي والقرب من الأسواق العالمية الكبرى.
والشاهد أنّه لا تنقصنا الإستراتيجيات لتطوير القطاعات المختلفة كالسياحة واللوجستية والثروة السمكية والتعدين، إلا أنّها في غالبيتها حبيسة أدراج الوزارات المعنيّة، الأمر الذي ينتج عنه قصور في التعريف بها للشركاء من القطاع الخاص، باعتبار أنّهم الأقدر على إنجاحها وتعظيم مردودها كقطاعات واعدة في المرحلة المقبلة.
ونجزم بنجاعة هذه الإجراءات في مواجهة الاستحقاقات الحالية والمستقبليّة، لأننا نعول كثيراً على القطاع الخاص في المرحلة المقبلة لإنعاش الاقتصاد عبر ضخ الاستثمارات ذات العائد الاقتصادي المجدي في شرايين الاقتصاد، ليكسبه الحيويّة والقدرة على الحراك الإيجابي والمبادرة البناءة.. وهو دور يتطلع القطاع الخاص للقيام به لرد الجميل لهذا الوطن العزيز.
إنّ المرحلة المُقبلة - والتي في نظري تبتدئ من الآن - هي مرحلة يحدد معالمها الاقتصاد، وهي مفصليّة ومهمة بكل المقاييس؛ وشرط اجتيازها بنجاح يتمثل في الشراكة الفعلية والحقيقية بين القطاع الخاص والحكومة ليمضيان قدمًا جنباً إلى جنب نحو آفاق التنمية المُستدامة.