تطور المتع البشرية

نوف السعيدي

يبدأ كتاب "تطور المتع البشرية: رغبات وقيود" بمشهد الخروج للعمل، واصطحاب الأولاد إلى المدرسة، في يوم ضبابي بارد. فيما ترتاح قطة البيت على الأريكة في تمثيل للذة الخالدة. ينظر الأولاد إلى أبيهم بسخط متسائلين: لماذا لا يكون بإمكانهم أن يعيشوا كالهرة؟ والكتاب الذي يقع في 430 صفحة هو إجابة صعبة على هذا السؤال البسيط.

متع لنا

الإحساس بالمُتعة هو اختراع ذكي للطبيعة. لقد توفَّرت لدينا خيارات كثيرة للتمتع لدرجة أنّه لم يعد لدينا الوقت الكافي لها، لذلك سعى الإنسان عبر العصور لتقليل وقت العمل، وزيادة الوقت المخصص للمتع. وخلال هذا السعي استعمل عدة وسائل ابتداءً من تدجين الحيوانات، مرورًا بتدجين البشر (العبودية)، واستخدام الآلات. ويعود الكاتب - بظرافة شديدة- إلى القطة فيقول "تبدو القطط ... أكثر ذكاءً منِّا، ذلك أنَّها لم تعمل سوى على تدجين جنس واحد، جنسنا، وهذا يكفي لتأمين كل احتياجتها الضرورية".

الغذاء: بقاء، متعة، سلطة وكبت

كان لدى الإنسان القدرة على الملاحظة والتكيف مع البيئة بحيث لا يعول على الظروف، بل يجد الحلول التي من شأنها استدامة الموارد الغذائية وخير مثال على ذلك هو الزراعة.

يحاول الإنسان زيادة المتعة عن طريق المثيرات القوية، كتناول جرعات كيميائية تصيبه بالمتعة البالغة وذلك عبر الكحول والعقاقير، والمخدرات، ولكنها كانت مصحوبة بقيود مثل العقيدة، القوانين، الإدمان والمشاكل الصحيِّة.

كذلك بالنسبة للطعام؛ فقد بات الغذاء أكثر وفرة وأقل كلفة؛ ولكن -من جهة أخرى- فإنّ الإفراط في تناول الغذاء يؤدي لمشاكل صحية، وهذا يمثل أحد الكوابح. كما أنّ الضغط الاجتماعي يعمل على عدم تشجيع الوزن المرتفع. بالنسبة للأغذية الحديثة ليس الكم هو المشكلة الوحيدة بل النوع أيضاً؛ إذ تزداد صعوبة الإحساس بالمتعة بأطعمة أكثر بساطة إذا ما جرى التعود على مثيرات أقوى. هناك مبدأ إضافي يعمل ككابح يتلخص في ظننا أن "الأشياء غالية الثمن لها قيمة أكبر" هذا المبدأ يُساهم في التقليل من قيمة المكافآت الرخيصة.

متعة تربية الأطفال

يتساءل الكاتب في بداية الفصل الثالث تساؤلاً مشروعًا: "لماذا نتعاون، إذا كان الهدف الأقصى، الوحيد الذي يفهمه الانتقاء الطبيعي، هو زيادة إمكانية نقل جينات للجيل اللاحق، هدف يمكن الحصول عليه... بسلوكيات أنانية للجسم الذي يحرك هذه الجينات"

الجواب يكمن في ثلاثة أمور:

· مصلحة النوع مقابل مصلحة الفرد: لدرجة أن بعض الأفراد يرضون بالعقم (كبعض الأفراد ضمن ممالك النمل والنحل) من أجل المصلحة العامة.

· إيثار الأقارب: حيث إن الفرد يميل إلى التعاون مع أفراد عائلته بحكم أنه يتشارك معهم في نسبة كبيرة من جيناته (والتضحية من أجلهم في كثير من الحالات، الأسد على سبيل المثال يخوض آلاف المعارك في حياته دفاعاً عن قطيع اللبؤات والأشبال الذي ينتمي له، وغالبًا ما ينهي حياته في أحد هذه الصراعات تاركاً العرش لمنافسه).

· الغيرية المتبادلة: ونعني بها التعاون الذي ينتج عنه أرباحا أكثر من قيمة الشيء بحد ذاته (مثل تبرع من يملك فائض الطعام، للذين يتضورون).

بعد أن عرفنا دوافع دعم النوع بشكل عام والعائلة بشكل خاص، فلنتحدث عن إحدى آليات تحقيق ذلك، ونقصد هنا "المتعة". فبحكم أنّ الطفل البشري يحتاج إلى مدة طويلة لبلوغ النضج فإنه من المهم للأطفال أن يبدأوا "ظرفاء"، فهذه الرقة والعذوبة هي ما يصنع الانجذاب والتعلّق (وهذه ميزة لا توجد مع الإنسان وحده حيث سجلت حالات قامت فيها حيوانات بتبني صغار حيوانات تُعد فرائس بالنسبة لها في الحالات الطبيعية). كذلك فإنّ وصول المواليد الجدد يعد مقوياً فاعلاً لمراكز المتعة، وعندما يرضع الطفل من أمه تفرز -أثناء العملية - هرمونات تبعث على الارتياح والمتعة، كما تفرز في أجسام الآباء الذين هم مع تماس بزوجاتهم.

متعة التعاون، الاستهلاك، التنافس

التعاون مهم للحماية، وللوصول إلى مصادر جديدة. وهناك أداتان أساسيتان سمحتا لنا بتطوير تعاون عالي المستوى:

اللغة: ظهرت اللغة كأداة غير مكلفة للتواصل، ومهدت لكثير من أشكال التعاون: توضيح احتياجات البقاء، الدعوة للتجمع وتنظيم العمل، التنبيه في الأزمات، الإشارة إلى الاستعداد للتناسل.

نظرية في العقل: إن قدرتنا على فهم ما يُفكر فيه إنسان آخر، والقدرة على أن نعزو إليه معتقدات ودوافع، ورغبات تمكننا من الوعي بالآخر ووضع تصورات حول معرفته بالعالم، وتوفر لنا القدرة على التقمص الوجداني، ونقل المعرفة (الوعي بمعرفتنا بشيء لا يعرفه الآخرون)، وحتى الكذب. ووجود صعوبات في امتلاك نظرية في العقل تشكل إعاقة في التعاطي الاجتماعي.

إن التعاون (مثله مثل الآلات الصناعية ومفهوم العبودية) ما هي إلا تقنيات توفر الوقت الذي يُفترض استهلاكه في نيل المزيد من المتعة.

الجنس: التناسل، التسلية، الاستهلاك

الرغبة والمتعة الجنسية تحفز السلوك الذي يؤمن التناسل، ويُستخدم الجنس لدى البشر للتعبير عن المشاعر الحميمة، والتخلص من التوتر، وتقوية الرباط العاطفي. كما يعُزز الجنس التعاون من خلال المتعة المشتركة للشريكين.

مقارنة الجنسانية البشرية مع جنسانية الثدييات الأخرى، تكشف عن سلسلة من الخصوصيات:

· لا يلعب الآباء دورًا في تربية الأطفال، حتى في الأنواع التي تعيش مجتمعة؛ فإنّها لا تعيش أزواجاً داخل القطعان، ولا تختص صغارها بأيّ نوع ظاهر من الاهتمام.

· تمارس الثدييات الاجتماعية الجنس علنيًا، بينما يمتاز بممارسته في جو من الخصوصية لدى البشر.

· الهدف الوحيد للجنس هو التكاثر، وتفقد الإناث جاذبيتها خارج فترات الإخصاب. أما لدى البشر فهو يحدث بشكل مُتكرر خارج فترات الخصوبة.

يتحدث بعدها الكاتب حول الجنسانية لدى مختلف الديانات وبحسب الظروف الاقتصادية للحضارة البشرية، ثم ينتقل للحديث عن البورنوغرافيا. ويتحدث عن رواجها وعن كونها في نمو متزايد. حيث:

· يوجد 420 مليون صفحة ذات محتوى جنسي معروضة على الإنترنت.

· يصرف الأمريكيون حوالي 5 مليارات دولار سنويًا على أفلام برنوغرافية.

الحقيقة المثيرة للاهتمام هي أنّ الجرائم الجنسية تتراجع مع انتشار البورنوغرافيا. بالمقابل يصنع الفرض القوي للمثيرات حالة من الإشباع، لتظهر الحاجة لطرق جديدة لإذكاء الرغبة، لدرجة أن الجنس يُعد "حِملا" لبعض الشبان في الدول المتحررة. فالقيود المفروضة على الجنس هي ما يجعله جذاباً وغير اعتيادي، وزوال هذه القيود يجعله أقل جاذبية.

أصبحت المحافظة على الزواج مسألة صعبة، فتوفر المصادر البديلة يخلق وهما أن بالإمكان دائمًا الحصول على ما هو أفضل، الأمر الذي يغري بعدم الالتزام، ويكمن التحدي المعاصر -حسب رأي الكتاب- في "إيجاد صيغة توازن بين الحفاظ على الحرية الفردية والانسجام الاجتماعي معًا".

توازنات المتعة واختلالها

يناقش الفصل تأثير الأنظمة الاقتصادية والثقافية في رفاهية الأفراد، وفي قدرتهم على الإحساس بالمتعة، حيث:

· يرتبط تدني متوسط دخل الفرد بعدم الشعور بالرضا عن العيش.

· ترتبط عدم المساواة بارتفاع مستويات العنف، والأمراض العقلية، والسمنة، ووفيات الأطفال.

· الاكتظاظ والاستقلالية الفردية قد تؤدي لفقدان الحميمية. مع التنويه إلى أنّ الاستقلالية ملازمة للشعور بالرضا متى ما وجدت في المجتمع الذي يناسبها، ففي المجتمعات التي تمتاز بالتخصص تقوى درجة اعتماد الأفراد بعضهم على البعض الآخر.

يطرح الكاتب سؤالاً مهمًا في الفصل الأخير: هل تسير مجتمعاتنا نحو التدمير نتيجة الاستهلاك الجامح الناجم عن طلبنا للمتعة؟ أم أنّ بالإمكان التوصل لصيغة نوازن فيها بين المتع الشخصية والأهداف العليا للمجتمع؟.

تعليق عبر الفيس بوك