حشرة

أحمد الرحبي

شبّه سقراط نفسه وفلسفته بمواجهة مدينة أثينا وشعبها والنخبة الحاكمة فيها التي أجبرته في الأخير على تجرع السم، بذبابة الخيل؛ الأمر الذي يجعل أثينا دائما مستثارة بفلسفة سقراط. وكان الكاتب الروسي تشيكوف يتحدث دائما عن الذبابة ثقيلة الدم التي تحوم حول ذيل الحصان فتزعجه لأنه لا يستطيع التخلص منها إلا بحركة من ذيله الناعم الجميل، وأمير الذباب في الأدب العالمي وفي بعض الأدبيات الدينية هو كناية للشيطان.

ويقول الجاحظ في كتابه "الحيوان" عن الذباب: أشهد أن الذباب ألح من الخنفساء وأزهى من الغراب، ويروي عمر ابن بحر الجاحظ بأسلوبه الجزل الممتع حكايات ومواقف مضحكة عن بعض أصدقائه مع الذباب، كما يوثق في الجزء الثالث من كتابه ما يمثل تجربة شخصية له مع الذباب، وكأنه يفرغ كل غيظه وانزعاجه الذي لا حدود له من هذه الحشرة السمجة، فيروي -على سبيل المثال- عن أحد أصدقائه حكاية الشيخ المديني الذي يهرب مذعورا من بيته بسبب ذباب أزرق يصف ذلك الشيخ مأساته معه بالقول: كلما دخلت البيت دار في وجهي، وطار حولي وطن على أذني، فإذا وجد مني غفلة لم يخطئ مؤق عيني، هذا والله دأبه ودأبي دهرا معه. ويورد الجاحظ حكاية قاضي البصرة عبدالله بن سوار مع الذباب، وهي حكاية طريفة، عن قاض بالبصرة يُقال له عبدالله بن سوار، لم ير الناس حاكما قط زميتا -أي شديد الوقار- ولا ركينا -أي ثابتا- ولا وقورا حليما ضبط من نفسه وملك من حركته مثل الذي ضبط وملك، يضيف الجاحظ فيأتي مجلسه فيحتبي -أي يجلس جامعا بين ساقيه وظهره بذراعيه- ولا يتكئ، فلا يزال منتصبا لا يتحرك له عضو، ولا يلتفت ولا يحل حبوته، ولا يحل رجلا على رجل، ولا يعتمد على أحد شقيه حتى كأنه بناء مبني أو صخرة منصوبة، ويضيف الجاحظ فبينما هو كذلك ذات يوم، وأصحابه حواليه صفين بين يديه؛ إذ سقط على أنفه ذباب، فأطال المكث ثم تحول إلى مؤق عينه -طرف العين قرب الأنف- فرام الصبر على سقوطه على المؤق وعلى عضه وعلى نفاذ خرطومه، ومع إعادة الذبابة نفس الحركة في نفاذ خرطومها في عين القاضي المرة تلو الأخرى، ظل الأخير حفاظا على وقاره وثباته، مقاوما لإزعاجات الذباب، فلا يزال يلح عليه حتى استفرغ صبره وبلغ مجهوده، فلم يجد بدا من أن يذب عن عينيه بيديه، ففعل وعيون القوم عليه ترمقه باستغراب واندهاش.

وقبل السؤال عن الأسلوب الأمثل للتخلص من الذباب، علينا أن نسأل ما الذي يجعل من الذباب ذبابا، وهو استخلاص منطقي توقف أمامه أحد النقاد الأمريكيين كثيرا، فلقد استخدمت كافة المبيدات وفي مقدمتها دي.دي.تي في مكافحة الذباب، وأصبح يلتهمها ويسمن بها؛ لأنه تأقلم معها، والطريف في الأمر أنَّ ما يموت من جراء هذه المبيدات هو طائر الشحرور لأنه يتغذى بالذباب ويتورط بما ترسب فيه من مبيدات.

ما الذي يجعل الذباب بهذا التصميم على المقاومة وإثبات الحضور والانتشار والتأقلم في مختلف البيئات الطبيعية؟ فيكاد يقترب الذباب في كل بيئات العالم -دون اختلاف بينها- بأن ينال صفة الشريك الأول للبشر، وسط تجربة الاجتماع التي مارسوها كشكل للاستقرار والتعايش بين بعضهم بعض؛ فلا تجد أكثر التصاقا بالبشر في مختلف بيئاتهم واقترابا من أجسادهم دون تهيُّب أو خوف، من الذباب؛ فليس أكثر إثارة للحنق من الذباب، ولا أكثر سخفا منه، فهو مستمر على عادته منذ خلقه ككائن يتفرد بسماجته بين جنس الحشرات الطائرة، في إزعاج البشر وتنغيص حياتهم، وبرغم الإزعاج والسلوك المشاغب والفوضوي الذي يمارسه الذباب في حياة البشر، إلا أن البشر برغم ذلك، يمنعهم كبرياؤهم ربما من اعتبار الذبابة عدوًا كفوءا لهم، أو النظر إليها بعداوة مفرطة كنظرتهم إلى البعوضة مثلا وهي الأقل مشاركة للبشر ومخالطة لهم وسط الاعتياد الاجتماعي الذي استقروا عليه في ممارسة حياتهم، هل لأن كون الذبابة حشرة تافهة وحقيرة في نظر البشر، لا تستحق ذلك الاهتمام منهم؟

تعليق عبر الفيس بوك