ثرثرة المقال بين القيل والقال

هلال الزيدي *

من بَيْن تلك المساحيق، ظهرتْ عيناها محمرة كأنها جمرة أشعلت لتدفئ المكان، والوجه في عموميته يُوحي لك بأنَّ المساحيق أخفت سير وذكريات تحتاج إلى جُرأةقارئ ونفاذ بصيرة تُتقن فن الفراسة؛ لتعبُر إلى الصندوق الأسود الذي لطالما كان المخبأ السري لتلك الكتلة البشرية، أو ذاك المكان في تلك الفترة الزمانية الممتدة مع وجع الظروف؛ فتباهى المشهد من بعيد لكل ناظر، واختلفت التفاسير حول ذلك المنظر؛ فمنهم من قال: إنه الواقع بعينه، ومنهم من عدَّه أضغاث أحلام وليسوا بقادرين على تفسيرها، ومنهم من سلَّمبالأمر وقال: "علي أن أعيش اللحظة، وأستمتع بها دون الغوص في تفاصيلها؛ لأنها مُوجعة عندما نضعها في طريق المقارنة".. إذاً هي حياة أو شبه حياة تخضع لحيثيات الرؤية التي تعيشها الأجساد لمجرد العيش، وهي إرهاصات لأحداث ستقع عما قريب وتحتاج إلى التنبه إليها كي نأخذ منها العبر، وهي إفرازات اجتماعية من صُنع البشر أنفسهم؛ فالزمان ما بعد القرن الواحد والعشرين، والمكان غير مُحدَّد في تلك الصفحة؛ لأنه مُمتد مع امتداد الإنسان.

هناك في ذلك المطار الشاسعوجوه مختلفة تسابق الوقت لإنهاء إجراءات السفر؛ فالنداء الأخير يصل عبر مكبرات الصوت: على المسافرين المتجهين إلى... (سأخفى الوجهة لدواعخاصة)على الطيران العماني رحلة رقم... (كذلك سأخفي رقم الرحلة لدواعسرية) إنهاء إجراءات سفرهم والاتجاه إلى البوابة رقم C27.. هو يحث الخطى ليصل إلى قاعة انتظار كبار الشخصيات، وهي وهم يتبعونه لأنهم يجلون منصبه لا شخصه.. أو دعوني أسميه "برتوكول" استحدثه البشر لأنفسهم، وتنوعت ممارساته.. من فرط التبعية يتمنون حمله على أكتافهم، لأنه "يمشي في الأرض مرحاً يظن أنه يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا"، والمرح هنا هو المشي متبختراً متمايلاً كمشية الجبارين أو هي ذاتها، وحياة البذخ في هكذا أمور لها ما لها وعليها ما عليها.. على أية حال، القوم يتجهون إلى سلم الطائرة عبر حافلة مخصصة لأولئك.. هدوء تام، فقط الأنفاس تسود المكان، فالعيون متسمرة إلى صاحب المعالي، فجأة يكح.."كح كح كح" الجميع يستنفرون اللحظة ويتحلقون حوله، فأحدهم رد قائلا: "كلامك صحيح معاليك" فيما علق آخر: "وأنا أتفق معك"، الكل يعيش لحظة الكحة ويتفقون معها، وهي مجرد "كحة"، لكنها ليست "كحة" عادية، فلو كانت في "تويتر مثلا" لوجدت الكثير من "الرتويت" الافتراضي، وهذا ربما لا يهم، علينا فقط أن نعيش اللحظة.

عند سلم الطائرة تقف الحافلة في انتظار الأمر بالصعود.. أحدهم يسر لصاحبه قائلا: يفترض أن تكون السلالم متحركة من أجل خاطر معاليه، فيرد عليه صاحبه: نعم صحيح، لكن هذه هي اللامبالاة.. فيصعدون السلم على حركة خطوة معاليه، ويتجهون إلى درجة رجال الأعمال.. يقفون حتى يجلس آمرهم وناهيهم.. فيجلس وهم من ورائه يجلسون.. نداء طاقم الطائرة: الرجاء ربط حزام الأمان.. كم كانوا يتمنون أن يربطوا الحزام عنه.. لكن لا يهم تلك هي الظروفوالاشتراطات المتبعة.

تعتلي الطائرة أبنية وشوارع فتبتعد عن الأرض شيئاً فشيئاً لتظهر كأنها حبة فستق متفتحة بسبب ترسبات الملح على جدرانها، الطائرة تستقر في مسارها، وجبال السحب أسفلها، كأنها جبال جليدية.. مع إطفاء إشارة ربط الأحزمة يبدأ طاقم الطائرة في معرفة طلبات مسافرين درجة رجال الأعمال فيبدأونبمعاليةوبدواعٍ برتوكولية، فلا يطلب شيئا ما عدا كوبا من الشاي؛ لذلك كان بعض من بطانتهيطلبون الطلب ذاته اقتداءً به، وبعضهم أراد التمتع بميزات تلك الدرجة. أما راوي الحادثة غارق في معايشة الحدث ومتذكراً "سعادته" عندما كان يصرخ في تلك القبة بكثير من الشعارات، أهمها تخفيض المصروفات والرحلات أقصد رحلات السفر، والبذخ الذي يؤثر على الموازنة العامة، لتدور الأيام، فيتسور محراب القرار ويعتلي كرسي الوزارة.. يا لها من مفارقات عجيبة تنهش في ذاكرة المساحيق فتسقط الأقنعة عند أول اختبار لها وتختفي المثالية عندما تلامس البساط المخملي.. مهلا "سعادتك"/"معاليك" لست أنت المقصود هنا فلا تكترث.

ومع غرقان "الراوي" في مطابقة الأمس باليوم يستفيق عندما أيقظه طاقم الطائرة مستمعا لطلباته، فيجيبه: إن صوتي أمانة ولم أجد من أودعه أياه حتى اللحظة، لذلك فإنني قررت التزام الحياد ولا أمنح صوتي لأحد.. هنا يرد الطاقم عليه مستغرباً، لم أسألك عن صوتك، فالتصويت لمجلس الشورى انتهى منذ أيام، ولا حاجة لصوتك دعه لك، أنا هنا أسألك: ماذا تريد أن تأكل؟ فيجيبه: نعم نعم، أعتذر لك.. أنا أريد وجبة تسد مسغبةجوعي، فماذا لديكم؟ فيقول الطاقم: لدينا "لحم بالخضار" فبسرعة يقاطعه قائلا: إذاً أريد اللحم بالخضار، وكوبا من "الكوكاكولا"، فيبتعد عنه الطاقم ليحضر له طلبه.

مُجددا يلتفت لأحدهم كان يجلس بجانبه يتصفح صحافة اليوم بتركيز، ويهمس لمعاليه عن بعض الأخبار،ويشير بأصبعه إلى تغطية الصحيفة لجولة معاليه الميمونة، يتهامسان، ويضحكان ضحكات متقطعة.. هناك وبعد أن التهم "الراوي" محتويات ذلك الطبق، بدأ الطاقم في الترويج عن بعض المبيعات.. وبكل تأكيد معاليه يشتري وأعوانه يقلدونه في كل شيء؛ فالكل هنا يشتري العطور والأكسسوارات. أما راوينا فلا حول له ولا قوة، فقط يرى ويسمع، ويتحسس ذلك "الكيس" المحتوي على لعبتين جلبهن ليفرح أطفاله بهما.. فيقول في قرارة نفسه: إنهما أعظم هديتين! فأنا ولدت وترعرعت بدون هدايا، ولم أكن أحلم يوما أن أسافر في درجة رجال الأعمال بجانب معاليه الذي كان يوما في الدرجة السياحية.. فسبحان مغير الأحوال.. عليَّ أن أؤمن بتبدل الأحوال.بعد مسار امتد ما يقرب من الساعتين يأتي النداء من كابتن الطائرة: نرجو ربط الأحزمة لنبدأ بالهبوط التدريجي.. تهبط الطائرة فتلامس عجلاتها الأرض التي كانت كفيلة بأن تقطع أحلام راوينا وتعيده إلى الواقع بحلوه ومره.. هنا الجمع يرددون: "الحمد لله على سلامتك معاليك"، وهو يهز رأسه الحمد لله.. تتوقف الطائرة كليًّا.. فينظر راوينا من النافذة فيرى جمعا مكونا من ستة إلى سبعة أشخاص يقفون أمام حافلة خاصة لنقل الركاب "الخاصين" ينتظرون نزول "معاليه" فيصطفون صفا واحدا.. ينزل ووراؤه ينزلون ويتسابقون.. وأمامه ثلة يصطفون..يهنئونهبسلامة الوصول.. يا لهذه البطانة، كيف استطاعت أن تكسر تواضع ذلك الشخص البسيط لتجعله شخصا يمشي مرحا، هنا بدا للراوي أنَّ عنجهية أي مسؤول لا تعلو إلا عبر من يذرون أنفسهم في خدمة ذلك المسؤول، فيمدحون شخصه لا عمله، وذلك من أجل الظفر بمنصب أو مهمة عمل، أو رضازائف يتبدل وينتهي بانتهاء تلك الحقبة، كما بدا لراوينا أيضا، أن للمناصب هيبة مصطنعة تستوجب على من يصل إليها أن يصنع لنفسه هيبة توافق مسار ذلك المنصب؛ لذا فبلوغ ذلك المستوى مرهون بالشخص نفسه.. تبتعد الحافلة رويدا رويدا متجة إلى قاعة استقبال كبار الضيوف، فيتجه راوينا لأخذ أمتعته لينتهي فصلا من فصول ذلك الزمان والمكانغير المعرفين.. وتنتهي ثرثرة المقال بين القيل والقال.. وينتهي كذلك ماراثون التسابق لعضوية مجلس الشورى.

-----------------------

همسة:

على الرغم من مساحيق التجميل المتنوعةالتي تغطي عذرية ذلك الوجه، إلا أنها وقتية ستختفي مع هطول الأمطار، والعيون المحمرة كفيلة بأن تغيِّب جزءًا من ذلك المسحوق عندما تتناثر الدموع على صفحات الخدود المطلية "بالبودرة"؛ لأن الصبح يذهب سواد الليل، إذاً الصبح موعدهم ألا إن الصبح قريب.

* كاتب وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك