التجربة الإسلامية في التعدد والتسامح والاعتراف

محمد السالمي

اختار النهضويون العرب مصطلح التساهل أو التحمل للتعبير عن ضرورة التعايش مع الآخر المختلف دينيًا أو آيدلوجياً، وفي القرن العشرين ساد مصطلح التسامح للتعبير عن تقبل الاختلاف، حيث حاول الإصلاحيون والمجددون الاستفادة من تجارب الغرب في حل هذه القضية لمعالجة المشكلات التي ظهرت وتبلورت في الاجتماع البشري والسياسي في منتصف القرن التاسع عشر، حيث كانت الصراعات الناجمة عن الاختلاف الديني أو العرقي وغيرها، سائدة في الغرب.

يأتي المفكر والأكاديمي الكبير رضوان السيد في مقالته بعنوان " التعدد، والتسامح والاعترف: نظرة في الثوابت والفهم والتجربة التاريخية"، باستطلاع موجز للتجربة التاريخية العربية الإسلامية في هذا الشأن قبل الأزمنة الحديثة. يشير الكاتب إلى أن رؤية التسامح أو الاعتراف بالآخر تنحصر في ثلاث:

أولا: الرؤية المسيحية: وهي التي تقوم على "المحبة"، ولكنهامع مرور الزمن أظهرت اعتقادات وممارسات ضيقت نطاق المحبة ومجالاته، وقصرته على المؤمنين بالمسيح وكنيسته، مما أنتج من انشقاقات داخل المسيحية مثل الكاثوليكية، البروتسنتية، والأرثوذكسية.وبذلك ما استطاع المسيحيون حلَّ المُشكلة من خلال المحبة، كما لم يستطيعوا الجمع بين مبدأ حصرية الحقيقة والخلاص، ووحدة الكنيسة الجامعة.

ثانياً: الرؤية الإنسانوية: وقد ظهرت لدى الأوروبيين في القرنين السابع والثامن عشرنتيجة للتجربة المرة وحروب الإبادة بين المختلفين دينياً. تبحثُ هه الرؤية عن السلام الاجتماعي من خلال الإقصاء القسري للدّين ؛ بل ظهرت هناك المقولةُ التي تذهبُ إلى أنّ لكل إنسانٍ حقاً طبيعياً في الحريات الأساسية في الاختيار الديني والاجتماعي والسياسي. وهذا التيار بالذات هو الذي استلهمه بعض النهضويين العرب الذين اختاروا له مصطلح التسامُح. وبسبب الموقف السلبي من الدّين، وقف الإصلاحيون ذوو الأصول الإسلامية في مطلع القرن العشرين ضدَّ مفهوم التسامُح الذي يقوم على فصل الدّين عن الدولة،حيث أشاروا إلى مدنية ووسطية الدولة الإسلامية في القرون التي مضت، والتي استطاعت خلق بيئة مناسبة للتعايش مع الآخر.

ثالثاً: الرؤية القرآنية: حيث ترى هذه الرؤية أن الاختلاف في الألسنة والألوان والعقول والعقائد وغيرها هي حالةٌ طبيعيةٌ منذ خَلَقَ الله الخَلْق. وذلك في قوله تعالى في سورة يونس: ﴿وما كان الناسُ إلاّ أمةً واحدةً فاختلفوا). وهناك طريقتان لتنظيم الاختلاف بين الناس وضبطه؛الطريقة الأولى منهج التعارُف، أي اعتراف الناس باختلاف بعضهم عن بعض، وضرورة التوافُق على العيش معاً رغم الاختلاف أو بسببه:وذلك في قوله تعالى: ﴿يا أيها النّاسُ إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثىوجعلناكم شعوباً وقبائل لِتَعارفوا. إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم﴾)سورة الحجرات:13) والطريقة الثانية: التآلُفُ بين المؤمنين بالإلهالواحد، بما يتجاوزُ الاعتراف إلى التآخي،وأن الإعراض عنهما لا يعني حتمية التنازُع؛ بل بين القرآن أن هناك حدودا يجب الوقوف عندها، وأساسُها الحريةُ في ممارسة الاختلاف حتّى في المجال الديني: ﴿أفأنت تُكرهُ الناسَ حتى يكونوا مؤمنين﴾)سورة يونس:19).

ظهرت جماعة المسلمين، جماعةُ التعارُف والقسط والرحمة في القرن السابع الميلادي، بحيث إنها اتخذت من الهجرة النبوية )622م( تأريخاً لها عَلَماً على ظهور التنظيم السياسي، حيث إنهم استطاعوا إيجاد نظام أهل الذمة والذي يُعد أول الأنظمة ظهوراً في التعامُل مع غير المسلمين من المسيحيين واليهود في البداية استناداً للقرآن،وقد امتدَّ فيما بعد ليشمل الزرادشتيين )المجوس( والبوذيين والهندوس، باعتبار هؤلاء جميعاً أهل أديانٍ يمكن إدخالها تحت عنوان)الصابئين(الذين ذكرهم القرآن .وقد تجاوز نظامُ أهل الذمةِ من طور التعارُف والاعتراف، إلى ما يقرُبُ من الأخوة، وقد ضمِنت الدولةُ لهم الحرية الدينية المتضمنة حريةَ العبادة والتعليم الديني، والتنظيم الديني وغيرها من الصلاحيات. بحيث إنهم يدفعون"الجزية"التي نصَّ عليها القرآن؛ وهي رمزيةٌ تُناظِرُ ما يدفعُه المسلمون من زكاةٍ لكنها أقلّ بمراحل من حيث القيمة. وليس من حقّ الدولة استدعائهم للقتال- وفي الوقت نفسِه هناك شراكةٌ إداريةٌ كاملةٌ في الشأن العامّ. والتقسيم إلى مسلمين وذميين تقسيمٌ إسلاميٌّ داخليٌّ من أجل التنظيم وليس من أجل التمييز إلاّ فيما ندر.كما أن الإسلام شرع بعض الآداب للتعامل مع المختلف دينيا في عدة مواضع والتي تضمن حقوقه حتى في الحرب، والتي اعتبرها بعضُ العلماء المُحّدْثين معالمَ مهمةً في تطور القانون الدولي في العصور الوسطية.

وعرف الإسلام في عصوره الوسيطة حركاتٍ متشددةً وأُخرى منفتحة ومتسامحة، وكانت هناك جماعاتٌ اعتبرت نفسها "الفرقة الناجية"، وشكّكت في إيمان المخالفين لها في العقائد والسلوك. بيد أنّ المسلمين ما وصلوا إلى اشتراع قانون إيمان" ذي بنودٍ تُخرج من الدين أو تكون شروطاً للدخول فيه."لكنّ جِماع الاعتقاد مرَكّزٌ في ثلاثة أصول: التوحيد، والنبوات، واليوم الآخِر.وبسبب رحابة فكرة الجماعة وممارساتها، ما كثُرت الفِرَقُ الإسلامية، بل كثُرت المذاهب الفقهية أو التوجُّهات والآراء في الفروع، وتعرضت بعضُ الفِرَق للضغوط؛ لكن لم تنشب حروبٌ دينيةٌ في التاريخ الإسلامي. وقد كان هناك من قال: كلُّ مجتهدٍ مُصيب، وهناك مَنْ ذهب إلى أنَّ الحقَّ في واحد. وفي كلتا الحالتين، بقيت للرأي الحرّ اعتباراته حتى في المسائل الدينية والتعبدية.

في القرن التاسع عشر، خضعت النظم في العالمين العربي والإسلامي، للاستعمار الأوروبي بطرائق مباشرة أو غير مباشرة. ومنذ ذالك الحين أُثيرت في الدراسات الاستشراقية مسألتا: الحرب الدينية في الإسلام)الجهاد(، والحرية الدينية)العقوبات على الردة(. .ولذلك فقد اعتبر فقهاءُ كثيرون الكلامَ على الحرب الدينية شيئا واهياً، بل اعتبر كثير منهم بانقضاء زمن دار الحرب ودار الإسلام؛ بسبب التغيير في النظام الدولي. ولكن يشير الكاتب أنَّ الفقهاء ما تقدموا كثيراً في مسألة الردة؛ بسبب الهواجس التي خالجتهم لهجمات التبشير الذي جاء مع الاستعمار، وأنّ كثيراً منهم يطالبون بما لا يطالب به القرآن الكريم، الذي يكرر النصَّ على الحرية الدينية، ولا يشرع عقوباتٍ دنيويةً على المرتدّ. وفي القرن العشرين برزت مسائلُ حريات المرأة والمساواة بين الجنسين، بالقضايا التي تؤخَذُ على النصوص تارةً وعلى اجتهادات الفقهاء تارة أخرى. وليس بوسعنا الزعم أنّ أحوال المرأة المسلمة مُرْضيةٌ لسائر النواحي اليوم؛ رغم التطورات الكثيرة التي دخلت على أوضاعها وحقوقها .

تنتشر منذ عقود فكرةٌ في أوساط الدارسين عن تعصب المسلمين وتشددهم وميلهم للهوية المنغلقة والمتميّزة، وظهور صورة للعالَم في أوساطهم، تعتبر أنّ هناك مؤامرةً عليهم وعلى دينهم. وبدأت تظهر نظرياتٌ حول أنّ التشدد والعنف متأصل في الإسلام، وأنّه لا يقولُ بالحوار، ويميل للصدام مع الثقافات والحضارات الأُخرى كما زعم هنتنغتون وغيره. وأن أحداث العنف العشوائي ومآسيه في السنوات الأخيرة، ولدّ هذا الانطباع لدى دوائر كثيرة، وليس في الغرب فقط. وهذه الانطباعات ليست مُحِقّةً في مجموعها طبعاً، فالصراع اليومَ ليس بين الإسلام والأديان والثقافات الأخرى، بل بين "الأصوليات" . بيد أنّ هناك تأكيداً كبيراً على الهوية والخصوصية، وقد يصل في الكثير من الأحيان إلى رفض المعرفة والتعارف.

والواقعُ أنَّ الإسلام كما المسلمين تعرَّضَ تأويلاً وممارسةً لضغوطٍ عنيفةٍ وعاصفةٍ طَوالَ القرن العشرين. مما ساهم في تغير الإطاران -الاجتماعي والسياسي، وأيضاً الإطار الثقافي والثقافي الديني. وقد ظهرت إحيائيةٌ إسلاميةٌ قويةٌ ضربت المؤسسات التقليدية، وأضعفت تحركات الإصلاح بحجة مكافحة التغريب. وسادت على مدى نصف قرنٍ ثقافةٌ دينيةٌ مُضادةٌ للكثير من تطورات العصر، أنتجت رؤيةً أُخرى للعالَم.

يختم رضوان السيد مقالته بأن ليس من حقّ أحدٍ أن يطلب منا التخلّي عن ثوابتنا أو حتى القول بنسْبية الحقيقة. وأن علينا تطبيق منهج "التعارُف" القرآني، كونه الأقرب من التسامح إلى طبيعة الإسلام. ولا خشية على الهوية والانتماء من الانفتاح، لأنّ الهوية المنفتحة والمتجددة هي الباقية.

تعليق عبر الفيس بوك