سلطنة عمان.. ومهمَّة إرساء ثقافة الحوار والتعايش الإنساني

مُحمَّد إبراهيم

خارج سياقات الواقع الدولي المعاش، تألقت دول العالم في أنسنة وتنميق خطاباتها أمام الدورة الـ70 لإنشاء الأمم المتحدة، لتركز جميع هذه الدول على سرد الضرورات الملحة والعاجلة لحفظ الأمن والسلم الدوليين وتحقيق التنمية المستدامة، واحترام سيادة الدول وشؤونها الداخلية.. رؤساء هذه الدول، برزوا في مناسبة تاريخية للعالم ولشعوبهم، ليؤكدوا قيمية وإنسانية ما يتحدثون عنه، غير أنهم تناسوا معيار الثقة والمصداقية (الواقع المعاش) لما يقولونه على مرأى ومسمعٍ من العالم، في الوقت الذي يشاهد فيه المجتمع الدولي، شعوبَ هؤلاء الزعماء تعيش حروباً داخلية، وأنظمتهم تُقِيم تحالفات عدوانية على بعضهم البعض، أو تدير أزمات كارثية لا تعرف للسلام والتسوية، وسيلة أو طريق، بل تتفاقم انعكاساته المؤسفة ضرراً كارثياً على بلدانهم، وأقاليمهم الدولية، وعلى الإنسانية جمعاء.

سلطنة عمان وحدها كانت هي الأكثر حظاً وقبولاً ومصداقية لكلمتها، ربما لأنها تتحدث من واقع ثقافة بنيان دولتها الراسخة؛ فأقوالها مطابقة لثقافتها، فهي الدولة الوحيدة التي اعتمدت الحوار كمبدأ حياة، ودرب خلاص حقيقي من مآزق الصراعات الداخلية والإقليمية والدولية، وجعلت السلام الاجتماعي والدولي والإنساني غاية تسمو على كل أهداف أي عملٍ أو سلوكٍ حضاري.. لتأتي كلمتها مترجمةً نهج باني النهضة العمانية الحديثة جلالة السلطان قابوس بن سعيد -رعاه الله- الذي أوقد مشاعل نهضتها في الـ23 من يوليو عام 1970م- مركزةً على ضرورة الحوار واحترام المواثيق الدولية، كأهم عوامل معالجة المعضلات الإقليمية والدولية، بما فيها الأزمة اليمنية، والأزمة السورية، والقضية الفلسطينية، وملف عالمية نظام منع الانتشار النووي....وغيرها.

... إنَّ تطابق الأقوال والأفعال، كمعيار واقعي للثقافة العملية التي تجسَّدت في كلمة السلطنة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ70، والتي ألقاها معالي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية يوسف بن علوي، جعل لهذه الكلمة صدى صادق، واهتمام إعلامي عالمي، واحترام جماهيري وشعبي عربياً ودولياً، لما ركزت عليه من دعوة صريحة لضرورة تجديد الثقة في العمل الدولي المشترك، بترسيخ المفهوم الحقيقي للشراكة، والمصير المشترك بين أعضاء المجموعة الدولية، خصوصاً وأن انعقاد هذه الدورة يأتي في ظل أخطار تهدد السلم العالمي في الشرق الأوسط، بعد أن أفضت إلى تدهور عسكري وأمني وأوضاع إنسانية غير مسبوقة، وحرب مفتوحة مع التطرف والإرهاب، كنتائج حتمية لازدواجية معايير التعاطي الأممي تجاه كثيراً من قضايا الصراع المحورية في المنطقة العربية، ولقصر نظر حسابات القوى الدولية الكبرى في سياساتها تجاه النظام الدولي في الشرق الأوسط، حيث دمرّت هذه السياسات الخاطئة، أنظمة كانت صمام أمان التوازن الجغرافي والعقدي والسياسي، لصالح الفوضى والعنف والتطرف، في تداعيات لا يمكن للحروب إيقافها أو إعادة اتزان النظام الدولي على قائمة المصالح المشتركة، بقدر ذهاب هذه الحروب إلى إنتاج المزيد من أسباب الخراب والدمار والثأر السياسي.

سلطنة عمان -إلى جانب بضعٍ من الدول الأوربية المشابهة لها في سياسة الحياد- لا تقود حرباً على أحد، ولا تحالفاً مع أحد ضد أحد، ولا تدير أزمات تتفاقم وتدمر كل جميل لصالح مشاريع أطماعها -بل ليس لها أطماع- على حساب الفقراء والمعوزين من بني الإنسانية، في دول الجوار، أو في منطقة في العالم، إنما هي صاحبة ريادة خلاقة، وإسهام محوري في تخفيف تداعيات الأزمات على الأوضاع الإنسانية، إلى جانب دور السلطنة في جمع أطراف الصراعات تحت مظلة الحوار والتعايش، وتعزيز قيم العمل الإنساني، في تلك البلدان المتضررة.

ولا غرابة في هذا التميُّز النوعي الذي أحرزته السلطنة؛ فبعد أن نجحت في إرساء قيم العدالة والتنمية، وثقافة الحوار كمحورٍ للسلام الداخلي، ومبدأ الحياد كمسار ناصع إلى السلام الإقليمي والدولي، وبعد أن تغلَّبت على مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية بحلول ذاتية وبدولة مؤسسات مقتدرة، لم يعد في قواميس سلطنة عمان مجالا لضياع الوقت في العصبيات الداخلية أو الخارجية، على عتبات عصرٍ مشحون بالصراعات، والنزاعات، والتكتلات الدولية المحمومة بتشبث كل طرف بمصالحه؛ فسلطنة عمان بحيادها الإيجابي، صارت مؤهلة لأداء مهمة إنسانية تحفظ للأمتين العربية والإسلامية بل ودول الشرق أوسطية حضورها في مقام التعقُّل والحكمة والحوار، بعد أن انعدمت في الأفق العربي الغائم بوارق الخير والسلام، واحتدمت الصراعات، مقوضة دعائم الاستقرار السياسي الإقليمي في المنطقة العربية والشرق أوسطية.

... إنَّ سلطنة عمان -بموقعها في قلب الحياد الإيجابي- صارت قِبلة للمفاوضات المأمونة لكل فرقاء النزاعات سواء على مستوى النزاعات داخل حدود دولة عربية معينة (كاليمن وسوريا...وغيرهما) أو على مستوى النزاعات الدولية بين إيران والدول العظمى، لتسجل بهذا الدور البناء انتصارات قيمية وإنسانية لن يغفلها التاريخ؛ إذ يُحسب لها في راهننا العربي العصيب أنها تضع أولى خطواتها على درب صناعة السلام والاستقرار السياسي الإقليمي والدولي.

واقتراباً من جوهر ممكنات وعوامل النجاح السياسي والاجتماعي والإنساني لسلطنة عُمَان الشقيقة، في هذا الدور الإنساني -الذي يجعلنا نَقِفُ بإجلال لها- يمكن القول: أن هذه الوثبة العُمانية لم تأتي من فراغ، فقد عمدت السلطنة منذ أكثر من 44 عاماً حين تولى السلطان قابوس مقاليد الحكم في سلطنة عمان، إلى ترسيخ مبدأ التعايش والعدالة والمساواة بين مواطني السلطنة تحت مظلة دولة عادلة؛ فمن أهم نصوص دستور السلطنة في مادته الـ(12) الخاصة بالمبادئ الاجتماعية: "العدل والمساواة وتكافؤ الفرص بين العمانيين دعامات تكفلها الدولة"، كما أن الدولة ملتزمة دستورياً بـ"منع كل ما يؤدي للفرقة، أو الفتنة، أو المساس بالوحدة الوطنية".. والأهم في هاتين الركيزتين الدستوريتين أنها قيم تشريعية نافذة خلقت على مدى الزمن ثقافة القانون واحترام العدالة.

هذه الثقافة التشريعية النافذة عكست نتائجها وثمارها على نجاح السياسة الخارجية، ذات الملامح العمانية المستقلة والمتميزة بحضور الاهتمام القيادي والريادي في الحياد الإيجابي، حيث يقوم منهج السياسية العمانية الخارجية "على مناصرة الحق والعدل والسلام والأمن والتسامح والمحبة والدعوة إلى تعاون الدول من أجل توطيد الاستقرار وزيادة النماء والازدهار ومعالجة أسباب التوتر في العلاقات الدولية بحل المشكلات المتفاقمة حلاً دائما وعادلاً يعزز التعايش السلمي بين الأمم ويعود على البشرية جمعاء بالخير العميم".

لقد أثبتت سلطنة عُمان أنَّ مبدأ الحياد والعدل هو عين الصواب والعقل في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها منطقة الخليج والوطن العربي والشرق الأوسط.. ولا مبالغة في هذا القول فقد تكشف للأشقاء في دول مجلس التعاون الخليجي وفي الوطن العربي وللأصدقاء في المجتمع الدولي، أن بإمكان الشرق أيضاً أن يقدم نموذجاً إيجابياً للعدالة الإنسانية، مقتدرا على لعب دور الوسيط الأمين -كجنيف الغرب عاصمة سويسرا- التي تشكل مظلة موثوقة ومأمونة لمن قادتهم صراعاتهم السلطوية إلى طرق مسدودة ومعتمة، تستحال عودتهم إلى مربعات السلام.

الأزمة اليمنية

لقد اختارت سلطنة عمان الحياد في كل قضايا الصراع الإقليمية في الخليج العربي والتي يختمر معظمها تحت رماد الخطاب السياسي والعمل الدبلوماسي، والمجاملات الرسمية، وتطفو إلى السطح والعلن حينا وتختفي حيناً آخر، والقضايا العربية كقضية سوريا واليمن وما جرى في دول الربيع العربي، فلم تدعم السلطنة أحداً ضد أحد، ولم توقف مساعيها ودعمها للجانب الإنساني لكل ما يفضي إلى خير هذه الشعوب، رغم كل التحديات التي تفرضها الظروف. وفي الملف اليمني، لم تتدخل مع دول مجلس التعاون الخليجي في اليمن تحت ما يسمى بـ"التحالف العربي"، بل اختارت سلطنة عُمَان الحياد التام، لتشكّل مسقط -منذ بداية الأزمة، وتحديداً منذ بدء التحالف العربي هجماته على اليمن في 26 مارس 2015م- ملاذاً آمناً لفرقاء الصراع السياسي والسلطوي اليمني، بل بدت مسقط كقِبلةٍ لآمال وتفاؤل كل اليمنيين وكل العرب، الذين أرهقتهم الصراعات السلطوية الداخلية، منذ العام 2011م حيث الربيع العربي، الذي تحول إلى شتاء قارسٍ بين عشية وضحاها، ليردي أحلام الشباب وتطلعاتهم على وقع أصوات البارود، القاتل بأيادِ الجماعات والميليشيات والقوى الرجعية والمتطرفة المسلحة، التي لا هدف لها سوى السلطة، والتوسع على مقدّرات الشعوب وسحق كل ممكنات وموارد وعوامل قيام أي دولة مؤسسات قوية تتمتع بالاستقلال.

لقد وجد فرقاء الصراع السياسي والسلطوي اليمني الذين يتقاتلون ويتصارعون منذ خمسة أعوام، أماناَ وثقة في جنيف الشرق (مسقط) ليراجعوا أسباب صراعاتهم، وليحاولوا أن يجدوا طريقاً للسلام، واستمرار التعايش فيما بينهم، وطي صفحات الحروب والدمار، الذي لحق بهم، ويزيحوا عن وطنهم وشعبهم نكال اقتتالهم الداخلي.

لقد عملت سلطنة عمان ولم تزل تعمل بنوايا صادقة وجهود مخلصة، على تقريب وجهات النظر بين الفرقاء اليمنيين، وبين فرقاء سوريا ودول الجوار المؤثرة في مسار الأحداث السورية، وبين الخليج وإيران، وقبلها لعبت دوراً محورياً في نجاح الاتفاق النووي الذي شغل العالم، كما استبان سمو مسعاها بذلك في إرساء قيم الحوار كثقافة في حل النزاعات، لتشع سلاماً وحرية في زمن الصراعات والعداوات العربية، وفي هذه الآونة التي تغابت فيها دولٌ خليجية وعربية شقيقة كبرى عن ميدان هذا الدور الإنساني المفقود في المنطقة العربية والشرق أوسطية.

* كاتب يمني

mibrahim734777818@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك