سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟(18)

القيادات الصالحة

د. صالح الفهدي

كما يؤسسُ البنيان على قواعدَ مكينةٍ، فإنّ الأوطان تعمَّرُ بأيادي المخلصينَ من أبنائها، فإذا نفضت الأوطانُ أياديها منهم، وركنتهم في زوايا النسيانِ، وهمّشتهم في قصيِّ الأركان، فإنّها لن تحقق إنجازاتٍ مذكورة، ولن تجني فوائدَ مأمولة، وإنّما تظلُّ تراوحُ مكانها لا يستقيم لها أمر، ولا يصلحُ لها شأن..!!. القيادات الصالحة هي ركائزُ لأيّ مجتمع ينظرُ بجديّةٍ نحو النّماءِ والتطوير، والبناءِ والتعمير، وحسب المثل الهولندي فإنّ "القيادات الصالحة توجد أتباعاً صالحين" لأنّها مشاعلُ تنيرُ الطريق، وقدوات يحتذى بها.

لقد انتبهت اليابان في أعقاب هزيمتها الكبرى أنّه لا يمكنها النهوض مجدّداً إلا من خلال قيمٍ حدّدتها بدقّةٍ فكان منها دعم القيادات الصالحة في المجتمع، لأنّ أيّ مشروعٍ نهضوي يهدفُ إلى انتشالها من مستنقعِ الدمار والخراب، ويُعيد لها أمجادها، ويضعها في سيرورة التاريخ محكومٌ عليه بالفشل الذريع إن لم تدره قياداتٌ صالحةٌ يُعرفُ عنها حبّها الوطني، وسُّموِّ أهدافها، وعلوّ غاياتها، وحسن طواياها، وهمّة سواعدها، وبُعد نظرها. يقول د. كامل علوان الزبيدي في كتابه "علم النفس الاجتماعي":"لن تنجح الجماعة في تحقيق أهدافها، ولن تكون ذات أثر في توجيه الفرد إلاّ إذا توافرت لها القيادة الصالحة".

يخلصُ الكاتب محمد حمدان في كتابه "القيادة الصالحة وبناء الحضارات:"إلى أن أهم عنصرٍمن عناصر بناء الحضارة هو القيادة الصالحة". لكن الإشكالية أن بعض الأوطان تخلّت عن القيادات الصالحة، دعماً،واهتماماً، وتقديراً، فهي وإن أدركت مكمن هذه القيادات الصالحة، وعرفت منجزها، فإنّها أقصتها عن ما يمكّن لهذه القيادات من لعب دورٍ فاعلٍ ومؤثرٍ في مجتمعاتها.فإذا بالقيادات الصالحة إمّا معطّلة يطويها الزمن في سنينه الجديبةِ حتى يضمحلّ حلمها وعطاؤها..! وإمّا أن تكلّفَ بما لا يتناسبُ مع قدراتها وإمكاناتها الثريّة، وإمّا أن تحاربَ وتعاق كلّما شاءت أن تخطّ لنفسها خطّاً تنوي به صلاحاً، وترجو به عائداً..!! هذا الإهمالُ والإقصاء والتهميش لا يصدرُ إلا بسبب تمكّنِ من يرى أن هذه القيادات الصالحة تشكّل خطراً عليه، فهو قاصرُ النظرِ، ضيّق البصيرة، لا يرى إلى مصلحة الأمّةِ، وعائدُ الأوطان من وراءِ كفاءاتٍ يمكنها أن تقود الأوطان إلى ما يدفعها نحو مراتب التمدّن، والنماءِ، والحضارةِ، والإرتقاء.

لا يُمكنُ لأيّ وطنٍ الاستغناءُ عن طاقات الشباب المتوقّدة؛ لأنها تمثّل حياةً للأوطان، واستمراراً لبقائها، فها هي أوروبا وبالأخص جمهورية ألمانيا تفتح أبوابها للاجئين بكل ترحاب وسط دهشة الأوروبيين، بل والألمان أنفسهم، لكنّ السرّ يكمنُ أغلبه في أن ألمانيا بحاجة إلى فتوّةِ الشباب لكي تزدهر اقتصادياتها، وقوتها السياسية، وها هي ترى في اللاجئين الفرصة السانحة لذلك..! أمّا بعضُ الأوطان التي رزقت بأغلبيةٍ شابّةٍ فقد أماتتْ فيهم الطاقات الخلاقة، وأحرقت في أرواحهم الطموحات المتوثبة لهذا لم يكن في مقدورها أن تحقق إنجازاتٍ ملموسةٍ تدفع عجلتها في طريق الدول المتنافسة على الصدارة، أو حتى في قافلة الدول التي تتمتع بمقومات واعدة..!

إنّ بعض الدول مثل سنغافورة نظرت إلى القيادات الصالحة في المجتمع ومن بينهم القيادات الشابة فأسلمت لها القياد، ومكّنتها من قيادة المجتمع واضعةً في أياديها مصير المجتمع، فإذا بهذه القيادات الصالحة تبرهن على الشراكة العامة للجميع في الثروة والسلطة، ولم تعمد إلى الاستفراد بالسلطة، أو التبذير بالثروة. تعاملت هذه القيادات الصالحة مع المجتمع من خلال مؤسساته على أساس أنّه صاحب القرار في التصرف بموارده، وثرواته. "يقول لي كوان يو" مؤسس سنغافورة في مذكراته (قصة سنغافورة):" بعدعدة سنوات في الحكومة،أدركت أنّني كلما اخترت أصحاب المواهب كوزراء وإداريين ومهنيين، كلما كانت سياساتنا أكثر فعالية وأكثر نجاحاً".

وهكذا بدا الحالُ أيضاً في بلدان الشرق الأقصى حيث تصف د.لوتس عبدالكريم وهي زوجة سفير مصري في فترة السبعينات دول اليابان ماليزيا وتايلند وسنغافورة وهونج كونج بأنّها كانت مستنقعاً للفقر والجريمة والأمراض المتفشية والتخلّف والبدائية إلى أن أصبحت اليوم في فترةٍ وجيزةٍ من التاريخ بلداناً متقدمة في مجالاتٍ عديدة، معلّلة نماء هذه الدول وازدهارها "بفضل العلم واختيار القيادات الصالحة" حيث لا مجال لأنصاف أصحاب القدرات في المراكز القيادية..!!

أمّا إذا أدارت الأوطان ظهورها للقيادات الصالحة فلم تكترث لها، ولم تُولِها اهتماماً فإنّها تخلقُ مساحاتٍ فسيحة للقيادات غير الكفوءة لكي تتولى زمام الأمور، فيشيعُ الفسادُ، وتسودُ الأنانية، وتتفشى المصالح الذاتية، وتغيبُ المصلحةُ السامية للوطن.

إذا تجاهلت الأوطان القيادات الصالحة فإنّها لا يُمكن أن تدَّعي اهتمامها بتنمية الإنسان وارتقائه، ولا يُمكنها أن تزعم أنّها تحقق إنجازات قيّمةٍ في مناحٍ مختلفة إذ لن يتحقق إنجازٌ دون إنسان، ولن يتوفر الإنسان المُناسب إن لم يكن صالحاً. وإذا كان لأحد أن يتساءل عن معايير الصلاحِ فإنّ سيرةُ هؤلاءِ الحافلة بأعمالهم وأفكارهم ومنجزاتهم هي المرجعية التي يمكنُ الرجوع إليها، فهؤلاءِ مشاعلَ في مجتمعاتهم وإن سعى البعضُ إلى إخمادِ أنوارهم، فالشمسُ لا يمكنُ أن تطمسها السحب فهي حقيقةٌ جليّة.

إنّ الفقر الحقيقي لأيّة دولة ليس في الموارد الطبيعية وإنَّما في القيادات البشرية وتحديداً الصالحة منها تلك التي تُعلي مصلحة الأمة فوق مصالح البشر. هذه القيادات هي التي يحتاجها كل مفصلٍ من مفاصل الحياةِ، وكل مكوّنٍ من مكوِّناته، يقول الكاتب حسن النسور في حديثه عن المواطنة الصالحة والانتماء:" الأم والأب الصالحان بحاجة إلى الوعي الصالح، المُعلم الصالح بحاجة إلى المنهج الصالح، المجتمع الصالح بحاجة إلى المبدأ الصالح، الدولة الصالحة بحاجة إلى السياسة الصالحة، الإعلام الصالح بحاجة إلى الرسالة الصالحة، الصحبة الصالحة بحاجة إلى القدوة الصالحة، البيئة الصالحة بحاجة إلى الجو الصالح، مراكز التوعية الصالحة بحاجة إلى الثقافة الصالحة.. وأخيراً أقول: القيادة الصالحة هي من ترسّخ هذا كله.."

القيادات غير الكفوءة إن ولّيت الأمر فسدت، وأخلّت بمسؤولياتها، وأهملت أمانتها، فإذا بها تقرّبُ الخلاّء، وتُبعدُ الأكفّاء، وتلوي القوانين، وتعسفُ بالنّظم، ويزيد طغيانها إن هي أمنت الرقابة، والمحاسبة، والعقوبة، حينها تستأسدُ على البشر، وتتنمّرُ على الأمانة، فتصبحُ القيادة لديها قرينة المزاج، ورهينة الأهواء، وضحيّة التعسُّف..!!

إنّها أمانةٌ يلقيها التاريخ على كاهل كل سلطةٍ إذا "أرادت" أن تبني وطناً مؤسساً على قواعد مكينة، أن تنتقي القيادات الصالحة التي تضع كل اهتمامها في قضايا التنمية ونشر العلم، وتحسن التعاطي مع ثروات الأمة، والتخطيط السليم لمستقبل الوطن وأجياله، وأن تسعى جاهدة لدعم كلّ قيادةٍ صالحةٍ في المجتمع لأنّها كالمنارات إن انطفأت ساد البقاعَ ظلامٌ يجدُ فيه البغاةُ والفسّاد ضالّتهم، فيرتعون، ويعبثون، وحينها ينحدرُ المجتمع إلى الحضيض!!.

 

تعليق عبر الفيس بوك