هل تغير الزمن حقاً؟

مريم العدوية

ليس من باب البكاء على الأطلال تأتي هذه الكلمات، ولكن من أجل وضع النقاط على الحروف وتحديد ماهية ما نمر به الآن وتحليله وفق منطق علمي، ومن ثم إيجاد الحلول المناسبة التي تتماشى واللحظة الراهنة؛ لنُبقي على دفة الحياة في مأمن من الأمواج العاتية. فذلك خيرٌ لنا ألف مرة من حالة الدهشة والاستغراب أو النقد والتنكر لهذا الزمن!

قبل سنوات ليست بالكثيرة، كانت تنام قرى هذا المجتمع بهدوء وسكينة تحت سفوح الجبال أو الواحات والسواحل، كان البشر يشبهوننا تماماً لكن الحياة كانت مختلفة تماماً؛ فالبيوت المتجاورة تكاد تكون غرفاً متفرقة لبيت واحد أكبر، وأهل الحارة الواحدة هم كذلك عائلة واحدة، ولذا كان الصبي الصغير يدرك بأنّ عصى الأب يمتلكها كل رجل في قامة والده، وإن غاب الوالد فهناك آباء آخرون لن يتهاونوا في أيّ سلوك خاطئ قد يبديه. وكانت النساء أكثر حميمية وقرب من بعضهن البعض؛ فالحاجة الماسة للآخر هي التي كانت تخلق شيئاً من الاندماج والاختلاط الكبير مع الآخر؛ فعدم وجود عاملات المنازل الوافدات كان يعني: تساعدينني اليوم أساعدك غداً. ولا بأس من أن أقضي لك مهام منزلك اليوم وكأنهُ منزلي تماماً لأنّ الأيام ستدور ويأتي يوم وتردين الجميل.

كانت السوالف والأحاديث التي لا تُمل ولا تنتهي هي التي تجمع الناس صغاراً وكباراً عندما يفلتون من ضغوطات العمل والمهام اليومية، فيجدون فيها متنفساً لإعادة ضبط نفسياتهم وساعاتهم البيولوجية. إننا لا ننكر أبداً أن الحياة البسيطة التي كانوا يعيشونها رغم الشظف والعناء والفاقة كانت بسيطة إلى درجة منحتهم راحة إلى حد ما بتنا نفتقدها اليوم. فلقد تعالت الصروح الأسمنتية وأصبح لكل فرد غرفة مستقلة بل ربما ملحقاً مستقلاً بعد أن كانت الأجساد تمتلك مقدار مساحة أجسادها التي تنام فيها في الغالب!

وابتعدنا رويداً رويداً عن بعضنا وأصبحت الأجهزة الإلكترونية تغنينا عن السوالف اليومية المتكررة، وازدحمت المنازل بالعاملات وانتشرت المحلات التجارية التي تقدم كل الخدمات -مقابل المال بكل تأكيد-. فبات في النفس شعور بأنّ المال هو سيد الموقف وهو الذي بإمكانه إدارة كل شيء متى ما عجزنا عن ذلك.

أصبحنا نعرض مساعدتنا للأهل والأصدقاء من باب المجاملة فقط لا غير وأصبحوا يبحثون عن كل الحلول غير واضعين أبداً في الحسبان اللجوء لأحد! هكذا تمدّنا رغماً عنّا وأصبحنا تماماً نشبه المدن الحديثة والأبراج العالية والأسواق ذات الماركات العالمية: مظهرنا جديد ومكابر بينما داخلنا يفتقد للكثير!

نفتقد البساطة التي كانت تسمح لنا بطلب المساعدة من قريب عِوضاً عن البحث عن حلول عصرية تفي بالغرض ببرود لاذع!

إنّه لمن الصعب أن نظل نطرق ونعيد ذات الحديث على بوابة هذا الزمن في سعي منّا لأن يعود شيء منه؛ لأن ذلك يستلزم أن نعيد هيكلة كل ما على الزمن وبعدها فقط سنتمكن من إعادة طابع الحياة الذي نفتقده!

ستبقى ذاكرة الزمن الذي مضى مسجونة في صورة أو ذاكرة أو زاوية متحف تمثل الإنسان الذي كان، والذي رغم معاناته مع الحياة فقط كسب الكثير مقابل الرفاهية التي حظينا بها وحرمتنا من حياة لن تعود أبداً.

لن يعرف أطفالنا يوماً ما معنى أن نتشارك طعامنا مع الجيران لأنّ أمهم مريضة، أو معنى أن يزجر رجل من رجال الحارة أحد الصبية رغم بعد القرابة؛ لأنّه أساء التصرف؟!

سيكبرون هكذا سريعاً ومن دون أن نلحظ تفاصيلهم البسيطة؛ لأنّ أشياء عصرية كثيرة تحول بيننا وبين التواصل والانغماس الطبيعي معهم، سنتذمر كثيراً ودائماً إلى أنّ نماشي العصر ونرضى بطابعه الجديد ونلبسهُ ونمضي رغم الغصة التي تخنق الخواطر.

إذن لا سبيل إلى إعادة طابع النفوس الذي كان ولا طابع الحياة؛ لأنّ كل شيء تغير وبات من غير المجدي (أن نرقم على الماء)، لنكتفي إذن بلم شتات ما تبقى منّا ونوثق العلاقات من جديد، ونفرض هذه المرة قيوداً في منازلنا تجعل أفراده رغماً عنهم يحاربون سلبيات العصرنة ولا يسمحون لها بخلق كل تلك الجدران التي تجعلهم منعزلين ومنغلقين على أنفسهم كالكائنات الافتراضية.

ولنسمح لذواتنا بأن نتمتع ولو بشيء يسير من التفاصيل البسيطة الموغلة في العمق ولنبحث في بعض الأحيان عن حلول غير معصرنة؛ متى ما كانت ممكنة وناجحة بدلاً من الانجراف نحو الأسرع والأسهل.

تعليق عبر الفيس بوك