هذه هي ألمانيا!

جمال القيسي

تنتشرُ، من وقت لآخر، على مواقع التواصل الاجتماعي وموقع يوتيوب مقاطع لرحلات السوريين اللاجئين من السعير نحو أوروبا عبر قوارب الموت، كثيرون، أو قُل ناجون، يروون رحلة الخروج من فم الموت. يتحدثون بما يجرح المروءة، ويخدش الضمير الإنساني الحي، لكنْ ثمة لاجئون يفقهون تماما مفردة "لاجئ"، وما تعنيه من مختصر يفيد وصول اللاجئ مضطرا إلى بلد غير بلده فيقبله بصورة مؤقتة مهما طالت ليعود إلى بلده في حال انتهاء الظروف التي ألجأته للخروج منه. وفي المقابل، ثمة لاجئ لا يعي معنى اللجوء على هذا النحو، ويظن اللجوء ميزة للاجئ، تخوله وضع شروطه الخاصة، وإلزام الدولة المضيفة بتلبية رغباته وميوله! وبخصوص هذا النوع الأخير ممن لا يفهمون أن اللجوء ليس هو اليد العليا على اليد المضيفة، فقد نشر النوع مقاطع فيديو متذمرة متمردة متنمرة على الدول المضيفة، واللافت وغير المضحك في الأمر، أن النمط في تلك المقاطع صار يخرج من نطاق العفوية والتلقائية في طرح وجهة النظر أو الحالة التي تنم على المضض والرفض، إلى ما قد يسمى الاحترافية الافترائية في القصة الخبرية، التي صارت تأتي على شاكلة التقارير التليفزيونية للفضائيات المرموقة!

لفت نظري منذ أسبوع أحد هذه المقاطع الذي يتحدث فيها مقدم المقطع (التقرير) عن سوء الأحوال التي يعيشها بعض اللاجئين السوريين في ألمانيا، وكيف تتعامل معهم الإدارات المسؤولية عن المخيمات معاملة سيئة، وماذا يفترض بها أن تقدم دون تأخير وإلا فإنها عرضة للفضيحة. وقد كان تقريرا ناقما وظهر فيه مقدم البرنامج مستفزا بصورة كبيرة، واقترب من شتم ألمانيا علنا، وكأنه مواطن ألماني تقصر دولته في حقه، ولا توليه الرعاية التي يستحقها كأحد مواطنيها من دافعي الضرائب المنتمين إليها قانونا وواقعا. لا بل، شتمها علنا، إذا أردنا الحقيقة أكثر، حيث كان المذيع الفذ يكرر بين كل فقرة من كلامه بقرف: (هذه هي ألمانيا)!!

ثم سار المذيع بالكاميرا بين خيمات اللاجئين لتظهر أكوام النفايات بشكل مخز ومخجل، وظل يكرر السخرية من ألمانيا، و"كذبها" على العالم وعلى اللاجئين. ولم ينتبه، أو هو لا يفهم، أن ألمانيا لا علاقة لها بعدم عناية بعض اللاجئين بنظافة أنفسهم وأفنيتهم. وكل ذلك كان هينا حتى قال: "هذه هي نظافة ألمانيا"!

مذيع المقطع المذكور يلتقي بعض اللاجئين، ويسألهم عن الأوضاع التي يعيشونها، وماذا يقولون للعالم! يتذمر البعض، فيما آخرون يحمدون الله على أنهم في وضع أفضل مليون مرة من العيش تحت قصف البراميل المتفجرة. ويخيّبُ هذا الحمد، وهذه الموضوعية الإعلامي اللاجئ، لكنه يقول بقرف: هذه هي ألمانيا!

ثم ينتهي (الإعلامي بالفطرة) من استعراض النفايات والآراء العشوائية، وصور الأطفال الذين هم اليوم في مأمن من القتل والتدمير وقطع الأعضاء التناسلية، ويدعو السوريين إلى عدم التفكير باللجوء إلى ألمانيا مطلقا، إياكم واللجوء إلى ألمانيا! (سائح متمرس في الأسفار وينصح بعدم زيارة هذا البلد لأن شعبه لا يروقه، وغير مضياف)!

اللجوء قضية إنسانية لا يملك المرء إلا التعاطف معها، ومؤازرة ومناصرة اللاجئين أينما كانوا، وفي الحالة السورية خصوصا، تكون مساندتها أولى من غيرها، بالنظر إلى ما نعرفه من ظروف الخطر والخوف والعذاب التي ترافق اللاجئ من بلد إلى آخر، ومن بحر إلى بحر إلى بر إلى بلد...وهكذا. لكن كل ذلك لا يسمح للاجئ بشتم البلد الذي استضافه، لو كانت بلادك (بلادنا) التي جئت منها أفضل حالا لما خرجت منها، فما بالك أن البلاد (بلادك- بلادنا) حتى في أفضل رخائها، لا بل وبعد 100 عام لن تشبه ألمانيا!

ألمانيا أصدرتْ، مُؤخرا، ترجمة عربية لدستورها المكون من عشرين مادة فقط، كي يتسنى للاجئين قراءته ويسهل عليهم الاندماج في المجتمع، فيما غالبية الأنظمة العربية تضع دساتيرها المؤلفة من مئات المواد في ثلاجات مغلقة بإحكام، وتستعمل القوانين الطوارئ لإطفاء الحرائق التي قد يشعلها بألوانهم ذوو البشرة السمراء.

تعليق عبر الفيس بوك