ما سأبثه للبحر حين أصافحه

مريم العدوي

ليتني أقوى أن أكون زجاجة عطر، يشف صدقي عن جمال روحي.. تُتعبني الأقنعة، بل وتخيفني عندما تصبح روتيناً وأمراً بديهياً لا مناص منه. أعيد شحذ همتي. وأقرر أن أكون تلك الجوانية. فوجه شخص المرايا يرعبني. أبدو فيه أخرى لا أشبهني. ربما أشبه ما يريد الآخرون.. إلهي أي حياة نحياها وعقولنا تدور في فلك مفصول عن تلك السماء التي تحلق فيها قلوبنا وتتمزق، بين فكرة تحبها وأخرى تنبغي وثالثة مجبرة عليها؟!
أفكر في الخسائر التي جنيتها يوم أن تمردت على مذهب أمي ولم أغربل ما يعج به فؤادي بغربال العقل وخطوط المجتمع الحمراء -المغلوطة حتى الثمالة في الغالب- تحت بنودها المزيفة من عيب، حرام ولا يصح. وما أبغض تلك القائمة السوداء إلى نفسي. القائمة التي ينساق إليها السواد الأعظم من العالمين ويتمرد منها البعض بصمت بينما نزر قليل يقاتل في سبيل إعادة صياغتها.. كشهداء اليقين الذين يتساقطون في الميدان وابتسامة رضا تتأرجح على شفاههم الطاهرة. (فالفكرة التي لديك استعدادٌ للموت في سبيلها هي فقط من سيكون لديك استعداد للعيش من أجلها).. هكذا أطلق بارودها تشي جيفارا يوماً. كم من الأصدقاء يا أمي قطفوا رؤوسنا وأخرجوا أسماءنا من قضبان قلوبهم التي زعموا بأنها كانت مأوىً لنا؟!

فعلوا كل ذلك وطغوا على سذاجتنا وسماحة قلوبنا فقط لأننا كشفنا عن أعماقنا وتنفسنا الحقيقة بعد أن كلت أرواحنا وهي تكتظ بالأرواح المتناقضة. وبالأسرار الساذجة. ستقولين لي يا أمي: أخبرتك مسبقاً بأن نهاية دربك ستكون كهفا يخلو إلا منك والوحدة لا ثالث لكما إلا الحزن والألم. وسيتساقط الأصدقاء تباعاً. أصبع الصدق ستطيح على التوالي بكل قطع الدمينو. كم هو قبيح يا أمي -لو تعلمين- أن نرتدي وجوهاً لا تروق لنا ونجر أفكاراً لا نستسيغها ونردد شعارات باردة تجهض كل معتقداتنا، فقط لنرضى الآخر. ولنحمي أسماءنا من مغبة الحذف من قوائم الأصدقاء الصدئة. الصدئة بالكذب وحزبه من نفاق وخداع. يا روحْ خسرتهم لأكسبك. لأحافظ على عفتك من دنس فكرتهم الأفعى. يعذبني هاملت -لو كان يعلم تجلدني فكرته (أكون أو لا أكون) ها هي روحي تقرر أن تكون يا هاملت. ها أنت يا شكسبير تضرم النار في كوخ تناقضاتي. لأستحيل إلى زجاجة عطر شفافة. أشاروا علي بعدها بأصبع الاتهام. أصبحت مجرمة. وأي أداة لإجرامي كانت. الصدق أم الشفافية؟!

عند شاطئك يا بحر أقف. تسكنني الدعة ويداعب قلبي السكون. سقفي وأرضي زرقة، يا ذا سعدي بك يا أزرق!. زرقتك يا جزر الأيام ومد الذكرى. تجعلني أشيح بوجهي عن محراب القبيلة ولا أبالي في استرسال حبي لك. لو تعلم يا صديقي يا أزرق. أرضي التي هناك في البعيد تنام وتسكن أحشائي لا ينقصها إلا زرقة تشبهك. تزاوج بها زرقة سمائها. فتجهض لنا قبائل من الأطفال يتدافعون من الكهوف الموحشة ليرتلوا صلواتهم للرب بأن يحفظنا ويهبنا من السكينة ما يبقينا على ناظري الأمل. أخبرتك سلفاً يا بحر بأن فاجعتي هذه لا عصا بها لأتحايل وأمسك بها من المنتصف. العقول يا صديقي صلصال حرقته الأيام مراراً وتكراراً بلهيب أحزانها. وبكل ما أوتيت من سعة. حتى أصبحت سجيل. فكيف السبيل الآن إلى إعادة تشكيل طينتها؟ وهي لسوء الطالع أو ربما حسنه بوصلة طريقنا إلى ذلك البعيد، الذي نتراكض خلفه على عمى أو بصيرة. جنة كان أم نارا.. على ناظريك يا أزرق الجمال. يا جمال الزرقة. أعيد تمجيد عهدي . لأكنْ غريبة بينهم. لكنني سأبقى ما استطعت سبيلاً التي أريدها. التي أشبهها. فلتخبرهم بأنني سأبقى ما حييت كنخيل موطني سامقة. مطلقة العنان لروحي لتطير في رحاب الأفق السماوي في جدالاتهم العقيمة. وفي لحظة الصفر قد انحني لرياح مجنونة فلا طاقة لي على مصارعة جنونهم ولكنني حتما لن أسمح لأي رياح كانت أن تقتلعني من جذور شخصي لتحيلني إلى كائن برمائي. أو أرجوزة راقصة على مسرح متصدع الجوانب. هذه زجاجة أمنياتي أتركها بعهدة أمواجك.

أما رحلتي، فستبقى على شواطئك وحسب. فسفني بحماقاتهم أشعلوا النيران فيها. فليتجهوا حيث شاءوا فلهم أقنعتهم ولي صدقي. وإن تكسرت زجاجة عطري بين نزاعاتهم وأفكارهم البلاستيكية -سهلة الكسر- فحسبي بأن شذى روحي سيلتصق بشظايا الزجاج وسيفوح بأريجه فيعبق الذكرى بذاكي شذاه .

تعليق عبر الفيس بوك