سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟! (11)

 

د. صالح الفهدي

كيف فهمنا العلم؟!

قال لي حين رآني أحد السلبيين أجتهدُ في دراستي وأحضّر الأبحاثَ والدراسات: لِمَ تُتعبُ نفسك؟ هي مجرد شهادة وحسب سواءً، أحرزت فيها درجة الامتياز أو الجيد أو حتى نجحت على الحافة..! يقول فأجبته: أولا يحق لي أن أكون في المقدمة؟! أوَّلا أطمحُ أن أكون متميزاً؟!

هذا الفكر (المنحرف) الذي يُعشش في كثيرٍ من العقليات في مجتمعاتنا قد أضرَّنا بما ساقه إلينا من جهلٍ مُقنَّع؛ لأن العلمَ في نظر هؤلاء هو مجرد عباءة يلبسها صاحب الشهادة، وليس عاملاً لتنمية الذات، وتطوير القدرات، وصقل المواهب والإمكانيات، واكتشاف الذخائر والمكنونات..! يقول الفيلسوف مالك بن نبي: "الجهل الذي يلبسه أصحابه ثوب العلم، فإن هذا النوع من العلم أخطر على المجتمع من جهل العوام؛ لأنَّ جهل العوام بَيِّن ظاهر يسهُل علاجه، أما الأول فهو متخفٍ في غرور المتعلمين".

اختزلنا مفهومَ العلم الواسع، العميق في شهادةٍ نحتاجها لإضفاء لقبٍ أو لنيل ترقيةٍ، أو لترصيع وجاهة، ولم نعِ أنَّ الشعوبَ التي تقدَّمت لم تتقدَّم إلا بفعل الوعي بقيمة العلم، وعياً غير زائف ولا متصنع. لهذا سعى الكثيرون منا إلى نيل الألقاب لمجرد "الوجاهة" بأي ثمنٍ وبأية طريقةٍ..! طغت ثقافة الشكليات والمظهريات حتى في أقدس الأركان: العلم..! ولم تمسه فحسب بل حرَّفته عن أصله، وجعلته وكأنه مجرد جَوالَ قمحٍ يكيلُ منه من شاء!

بل وأنكى من ذلك هو أن اللجوءَ للعلم ليس رغبة للعلم، بل لفشلٍ في تجربةٍ، وعدم نيل مرتبةٍ، أو عدم توافقٍ مع مسؤول..!! أيُّ علمٍ هذا الذي يُرادُ منه مجرد "إفادةٍ ورقيةٍ" و"لقب"؟!

أُنظر إلى الطالب الذي يكبُر على مفهوم أن استفراغَ ما استظهره من معلومات هو السبيلُ إلى النجاح وليس الفهم والتمعن..! هكذا علم ولقن ولم يجد لغير ذلك سبيلا! وانظر إلى الموظف الذي يجدُ في ورقة الشهادة مجرد "قنطرةٍ" توصلهُ إلى المكانة الأفضل والدرجة الأعلى وليس تنمية لقدراته، وسعةً لمداركه..! وانظر إلى الذي سعى ليضيف إليه لقباً إلى لقب الوجاهة من أجل تفخيم السمعة لا من أجل تفخيم العقل!

نحنُ نمرُّ بإشكاليةٍ معقدة في تعاطينا مع العلم، وأجدُ أن أجيالاً تلو أجيال لا تأخذ من العلم أخلاقاً كما ينبغي للعلم على هيبته وسمته أن يهب، ولا تنالُ منه المعرفة الحقيقية التي يجبُ أن تترسخ عميقاً فتؤثر في المنهج الفكري، وتنطبع في السلوك، ولا تتحصل منه على التوجهات الملائمة التي يمكنُ للإنسان أن يتخذها دروباً لطموحاته وآماله..! يقول كارل ساغان: "العلم هو طريقة للتفكير أكثر مما هو مجموعة من المعارف".

لهذا، تكمُن مُشكلتنا في ضعف قراءتنا؛ لأن القراءة ليست في نظرنا واجباً مقدساً بل هي عبء ثقيل..! أو مجرد "وسيلة للنوم" حينما يطول السهاد والأرق!

وفي أحد السراديب تحت الأرض في بانكوك، وفي زاويةٍ قصية شاهدتُ بائعَ أقمشةٍ هنديًّا قضى أربعة عقودٍ في مملكة تايلند وهو يقبضُ على كتاب وبجانبه رواية قد انتهى من قراءتها. باغتني سؤال: لماذا يقرأ هذا البائع؟! اقتربتُ منه فقلت: إذن تسلي نفسك بالقراءة، فقال: أقرأ في كل شيء.. كل شيء ابتداءً من الصحف عبر الإنترنت إلى الروايات والكتب المختلفة، ثم قدم لي هدية هي عبارة عن رواية باللغة الإنجليزية!

هنا.. وقعنا في مفارقة ليس مع الشعوب المتقدمة التي تراها وهي تقرأ في القطارات والأسواق والشوارع والحدائق، بل وحتى مع رموزنا من العلماء والمفكرين كابن النفيس، وجابر بن حيان، وأبو بكر الرازي، وابن سينا، والجاحظ...وغيرهم، أولئك الذين لا يكادُ المرءُ يصدق كثرة مؤلفاتهم، وتنوع علومهم، وعمق نظراتهم، وحداثة أفكارهم..! يتساءل الدكتور عدنان إبراهيم: "هل هؤلاء أجدادنا، هل فعلاً نحن أحفادهم..! مسافات فلكية بيننا وبينهم..! كيف كانوا يكتبون وعلى ماذا كانوا يكتبون، وبأي الوسائل كانوا يستعينون..! مئات المصنفات وأكثر هذه المصنفات عميقة ودقيقة"!

إشكاليتنا تقعُ في نظرتنا السقيمة نحو مفهوم العلم، أو التمظهر العلمي الذي لم يُحدث فينا تغييراً جوهرياً نراهُ ماثلاً في إنجازاتنا، وأعمالنا..! تخبرني مسؤولة في إحدى المؤسسات التعليمية العليا أنها تواجهُ أكاديميين يحملون درجات علمية رفيعة من أمريكا وأوروبا ولكنهم لا يزالون رهينو العقلية التقليدية في نمطية التفكير..! فما فائدة أن نبتعث دارسين في الغرب إن لم تتغير طرق التفكير إلى الأفضل، إن لم نطبق الحكمة العالمية "فكر عالمياً، وطبق محلياً" (Think global and act local)؟! ما فائدة الدورات التدريبية والورش العملية والبرامج المتخصصة إن لم تحفزنا نحو التفكير بطرقٍ مغايرة عن التي تعودنا عليها؟! ما فائدة الزيارات الرسمية للوفود، والجولات الاستطلاعية للبعثات إن لم نتعلم كيف تقدم الآخرون ونطبق ذلك في مجتمعاتنا؟!

سألتُ طلاباً لا يتعدون الخامسة عشرة من عمرهم وقد أُدخلوا برنامجاً تطويرياً في إحدى الجامعات المحلية خلال فترة العطلة الصيفية: لماذا أنتم هنا؟ فأجابني أكثرهم إجابة العامل الذي كان يكسرُ الحجر حين سأله أحدهم: ما الذي تفعله؟ قال: أكسر الحجر، في حين قال صاحبه: إنني أبني صرحاً!! ولم أكن لأتوقع إجابات بعيدة النظر إلا إذا أعدنا النظر في تأسيس مفهوم التعليم ليكون عاملاً فاعلاً في اكتشاف المواهب والميولات والاتجاهات منذ البواكير الأولى.

... إنَّ علماً لا ينتجُ سلوكاً قويماً، ولا رأياً حكيماً هو علمٌ مغشوش..! وإن علماً لا يثمرُ تنميةً حقيقيةً، معاشةً في الواقع هو علمٌ زائف..! يقول الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- في كتابه "حياتي في الإدارة": "كنتُ ولا أزال أرى أنَّ فلسفة التعليم في العالم العربي -ومعظم العالم الثالث- فلسفةً تتناقض، كليةً، مع متطلبات التنمية وكنت ولا أزال أرى أنه ما لم تتغيَّر هذه الفلسفة فسوف تظل التنمية الحقيقية حلماً بعيد المنال!".

ومردُّ ذلك إلى مفهوم التعليم عندنا، ذلك المفهوم الذي لم يربط العلمَ بالواقع، ولم يوثق صلة العلم بتنمية الذات، ولم يرسخ علاقة العلم بالتنمية الشاملة للأوطان، وإنما اختزل العلم في شهادةٍ، ولقبٍ، وكرسي..!! إنَّ ذلك المحاضر العربي الذي وقفَ ساخراً في إحدى الجامعات التي استضافتني قائلاً: من هذا الإمام محمد عبده الذي تقول عنه!! الغربُ فيه الانحلالُ والانسلاخُ والانحراف وهنا القوة، هنا كلمة لا إله إلا الله.. فصفَّق له طلابه!! إنَّ هذا المحاضر هو أحد رموز التمويه والتعمية والجهل المقنَّع، ولا ريب أن وجوده وأمثاله لن يسهم في تأسيس مفهومٍ صحيح لعلمٍ يقومُ على العدل والإنصاف بل على التحيز والإجحاف!

إنَّ كلمة "لا إله إلا الله" لا تُبنى على جهل، ولا تُعلى على بناءٍ متهدم، ولا ترفعُ شعاراً على علمٍ أسود لفكرٍ ظلامي..! فالنتاج المشوهُ واضح، والقطافُ المر مشهود..! إنها معتقدٌ إيماني يُبنى على علمٍ نير، وفكرٍ خير، وتطبيقٍ حكيم.

وما لم نؤسس لمفهوم سليم للعلم، فلن تقوم للأمة قائمة، ولن يُسمع لها صيت، ولن يشهد لها حراكاً .. وذاك أمرٌ يملك قراره قادتها وعلمائها وأهل الفكر فيها.

تعليق عبر الفيس بوك