قراءة في كتاب "الوجودية منزع إنساني"

أمل السعيديَّة

الكتابُ عبارة عن مُحاضرة لجان بول سارتر الفيلسوف والأديب الفرنسي؛ حاول من خلالها الرد على الاتهامات الموجهة للوجودية، وناقش فحوى هذه الاعتراضات. وكان سارتر قد حرَّر هذه المحاضرة تحريراً طفيفاً، وعاد لنشرها في وقت لاحق، وفي مقدمة الكتاب وردتْ الكلمات المفتاحية التالية: قلق، وجودية، ظرف، إهمال، التزام، وجود، إنسانية، فردية، مشروع، مسؤولية، إرادة.

يشرحُ سارتر في كتابه أنواع الوجودية فيشير إلى واحدة مسيحية وأخرى ملحدة إلا أنها تتفق بعض الشيء على أن الوجود يسبق الماهية أي يجب الإنطلاق من الذاتية ويعرف سارتر الإنسان على أنه "كائن يوجد قبل أن يكون قابلا للتعريف وفق أي مفهوم"، أي أن كونية الانسان ليست معطاة وإنما مبنية على الدوام؛ فلا وجود لطبيعة إنسانية ولا لأخلاق عامة، وهذا ما أعطى الإنسان كرامته ونأى به عن الكون بصفته موضوعاً، وإن أول مبادئ الوجودية تتمثل في أن الإنسان لن يكون شيئاً آخر سوى ما يصنعه بنفسه؛ فليس الإنسان شيئاً سوى مشروعه وقيمة الإنسان الحقيقية تكمن في فعله، وبهذا يكون الإنسان على قدر كبير من المسؤولية؛ وبذلك يحقق أخلاق الفعل والالتزام مما يلغي دعوة المسيحين الذين رأوا في الوجودية أنها إنكار لواقعية الإلتزامات الإنسانية.. إن اختيار الإنسان لمعنى حياته أي "القيمة" التي سيضفيها على هذه الحياة يعني أنه يبتكر أشكالاً ستكون نموذجاً في كثير من الأحيان؛ مما يعني أنَّ هذا الاتجاه سيكون منظماً لا يتبع النزوة كما يشاع عن الوجودية.

يزعم الشيوعيون أنَّ الوجودية تكرس الذاتوية وتدعو لها من خلال اعتبارها للإنسان على أنه كائن منعزل وإيمانها بمقولة ديكارت "أنا أفكر" وهذا من شأنه إسقاط التضامن الإنساني الذي يمثل لبنة الفكر الشيوعي والذي يفترض وجود خطة جماعية لإدارة المجتمع وأي دعوة تضاد في رسالتها دعوة الشيوعية هذه تبطئ من عملية الثورة وتنفيذ رسالة الشيوعية. فيرد سارتر على ذلك في أن لبساً في فهم المقصود بالذاتية الوجودية يبدو واضحاً لدى من يعترض عليها، فإنَّ المعنى العميق لها في الوجودية لا يعني الفردية الضيقة إطلاقاً فإن اختيار الإنسان لذاته يعني أن كلاً منا يختار ذاته، وبهذا يختار جميع الناس ذواتهم. فعلى حد تعبير سارتر لا شيء يمكن أن يعتبر حسناً لنا ما لم يكن كذلك بالنسبة للآخرين، كما أن رحلة اكتشاف الذات تحتاج إلى الآخر؛ فإنَّنا كثيراً ما نتعرف علينا من خلال الآخرين. إنَّ على الإنسان أن يمر عبر الآخرين في رحلة إكتشاف ذاته لانهم شرطٌ وجوده. ويقول بونج وهو شاعر فرنسي "الإنسان هو مستقبل الإنسان" أي أن كل إنسان إنما يبدع صورة عن الإنسانية جمعاء وهذا ما يلغي الاعتراض على الذاتية. وبذلك تعلن الوجودية طواعية في أن الإنسان كائن قلق، وهذا القلق لا يعطل الفعل وإنما هو جزء منه، فيقول ديستوفيكسي: "اذا كان الله غير موجود يصبح كل شيء مباحاً"، ومن هنا لا وجود قبلي للخير لذلك لأنه لا طبيعة واحدة للإنسان، هذا يُلزمنا أن ندرك أهمية أن نكون شرفاء ومخلصين لأننا في عالم لا يوجد فيه إلا بشر وحسب. وهذا هو ما يجعل الإنسان قلقاً ومهملاً على حد سواء إزاء كل هذه الخيارات الواضحة التي يجب أن يختار فيما بينها، وإزاء جلاء فكرة الخير والشر، وإنه دائما ما يكون إدراك الشيء يضفي على ما بعده سحنة أخرى مختلفة عن تلك التي تكون قبل مسألة الإدارك؛ فيقول سارتر إن الاهمال يتناسب مع القلق؛ لذا فهو يعني أننا نختار وجودنا بأنفسنا فيما اليأس عبارة عن كوننا نقتصر على اعتبار ما يصدر على إرادتنا، وهو التعويل على الإحتمالات.. أصر سارتر على أنَّ الإنسان محكوم عليه بالحرية ولم يقر بسلطان الانفعال لأن الإنسان مسؤول عنه كذلك. وعلى أننا لا نستطيع أن نتخذ من حريتنا هدفاً ما لم نتخذ من حرية الآخرين هدفاً أيضاً.

في الحقيقة وبعد قراءة هذا الكتاب تأكدتُ من عمق التفاؤل الوجودي ومن قسوته في آنٍ واحد؛ فهو يجعل الإنسان حرًّا داخل مسؤولياته، لا في الخارج منها، وأعتقد أنها حرية يقينية وواضحة لا تقوم إلا على أساس واقعي وموجود، تبتعد عن الاحتمالات وتفعل كثيراً من أجل الحياة، وتدفع الإنسان للعمل بدلاً من الأمل.

تعليق عبر الفيس بوك