حاتم الطائي
في ظلِّ الأزمة الاقتصادية التي بدأت تخيِّم على الدول النفطية -جرَّاء هبوط أسعار النفط إلى متوسط 50 دولاراً للبرميل- ومع غياب أيَّة بارقة أمل تلوح في الأفق لتحسُّن الأسعار خلال العام المقبل، يتحتَّم علينا أن نبحثَ عن حلولٍ لتفادي تعمُّق الأزمة. ومن بين هذه الحلول، أرى أنْ نتبنَّى مفهومَ "اقتصاد الضرورة"، الذي يتمحور -من وجهة نظري- في الانعتاق من سلسلة الحاجات اللامُتناهية في المجتمع الاستهلاكي، والتركيز على الضرورات الأساسية التي تكفُل حفظَ التوازن في الإنفاق. وحتَّى لا أُتَّهم بالتشاؤم في الطرح، تعالوا نقرأ معًا مُعطيات الواقع التي أشرتُ إليها آنفا.
... إنَّ الخلافات المحتدمة بين دول "أوبك" حول حِصَص الإنتاج، لا تُنبئ بانفراجة سعرية وشيكة لأسعار النفط تضع الأمور في نصابها.
وغَيْر بعيدٍ عن المشهد، تلك الخلافات السياسية التي تمُوْج بها المنطقة، والتي تُعدُّ المصدرَ الأكبر للنفط في العالم؛ فإيران والسعودية -وهما مُنتجان رئيسيان- تتلبَّد العلاقة بينهما بغيوم عدم الثقة، على خلفية الاصطراع على مناطق النفوذ. ومناطق الإنتاج الأخرى في ليبيا والعراق وسوريا تشتعل بحروب وصراعات أهلية لا تُبقي ولا تذر، تدفع فاتورتها على حساب أمنها ورفاهها الاقتصادي.
وعَوْد إلى "اقتصاد الضرورة"؛ فمن المعروف أنَّ الحاجة هي أم الاختراع، والقراءة الموضوعية للمعطيات السابقة تُبرز حاجتنا إلى تبنِّي نهج اقتصادي جديد، يضع يده على الجرح تمامًا، ويعي أنَّ العصر الذهبي للنفط قد ولَّى إلى غير رجعة -على الأقل في المستقبل المنظور- الأمرُ الذي يُوجب علينا إدارة دفة الاقتصاد نحو مزيدٍ من الكفاءة والإنتاجية، وإعلاء شأن التنافسية.
إذن؛ نحن في أمسِّ الحاجة إلى قراءة جديدة للاقتصاد بعَيْن متفحِّصة، تشخِّص تداعيات تراجع الدخل الوطني المُعتمِد على النفط، وتأثير ذلك في الموازنة العامة، وكيفية إيجاد حلول إيجابية يُسهم فيها الجميع، تحت مظلة شراكة واسعة، تسعى للسيطرة على السلبيات والحدِّمنها، واقتراح حلول عملية ناجعة، قادرة على تحويل "الأزمة" إلى "فرصة" تحقِّق -مستقبلا- مكاسب تحفظ لنا مُنجزاتنا الحضارية، وتدعم تنميتنا في مختلف الميادين والمجالات.
... لابُدَّ من بزوغ فكرٍ جديدٍ من رَحِم الأزمة والمعاناة،وانبثاق رُؤى وأطروحات بحجم التحديات، وهذا يتطلَّب بالضرورة أن نتحلَّى جميعًا بالمسؤولية؛ بتغيير أسلوب حياتنا بصورة تجعلنا أقل اتكالا على الثقافة الريعية.
لقد سَعت الدولة -خلال السنوات الماضية- لتوفير بيئة استثمارية جاذبة للقطاع الخاص -المحلي والأجنبي- من خلال الاهتمام بتشييد منظومة البُنى الأساسية -من طرق وموانئ- إضافة إلى إيجاد البيئة التشريعية الملائمة، التي تحفِّز المستثمرين على الاستثمار في مختلف القطاعات غير النفطية، والتي يُعوَّل عليها كثيرا في أن تكون أكثر كفاءة، وتعمل على خلق وظائف جديدة، وتضخ الحيوية في شرايين الاقتصاد الوطني.
وكما هو معلوم، فإنَّ الضرائب تعدُّ جزءًا مهمًّا من الأنظمة الاقتصادية، وأحد المصادر الحيوية التي تحقِّق ربطا ماليا مقدرا في موازنات الدول بمختلف أشكالها المباشرة وغير المباشرة. وعلى الرغم من أن قضية فرض الضرائب تُثير كثيرا من ردود الفعل بين مؤيد ومعارض من قِبَل الأفراد والشركات، إلا أنها تظلُّ أحد الحلول التي علينا أن ندرس تطبيقها؛ فقديما قيل "إنَّ الكيَّ هو آخر العلاج"، وهذا أمر طبيعي؛ لأنَّنا على أعتاب مرحلة جديدة تستلزم التفكير بصَوْت عالٍ، ودراسة الأمر من كل جوانبه.
... إنَّنا بحاجة لتعريف المواطن وتثقيفه بمعنى الضرائب ووظيفتها وفوائدها، وتصحيح الصورة النمطية عنها باعتبارها "بُعبع مخيف"،علما بأنَّه تكمن فيها حلولٌ للكثير من مصاعبنا الاقتصادية فيما لو تم تطبيقها وفق رؤية علمية وموضوعية تراعي ذوي الدخل المحدود، ولا تمس المواطن ومكتسباته المعيشية، بل يُراد بها الشركات الكبرى التي تحقِّق أرباحًا عالية.
دَارَجدلٌ كثيف إبان الفترة الماضية عن رَفْع الدعم عن المحروقات، والذي أصبح هو الآخر واقعًا وضرورة مُلحَّة تفرضها الظروف والمتغيرات الاقتصادية العالمية؛ فلا يمكن الاستمرار في دعم المحروقات بينما تتعرَّض الموازنة إلى التآكل والعجز، والذي يُتوقع (العجز) أن يصل إلى خمسة مليارات ريال عماني. وعلينا في هذا الإطار أن ندرس قضية إعادة هيكلة الدعم وفق معايير واشتراطات موضوعية تضمن عدم تضرُّر أسر الدخل المحدود؛ إذ لايستقيم أن يستمرَّ الدعم للجميع -سواء القادر ومحدود الدخل- لذا فلابُدَّ من وضع آليات توفِّر الدعم للمستحقين فقط.
كما لابُدَّ من توحيد أسعار مُشتقات النفط على مستوى دول مجلس التعاون؛ حتى نقضي على ظاهرة التهريب، والتي تكلِّف الدولة ملايين الريالات.
والشاهد.. أنَّه لم يعُد مقبولا -في ظلِّ المعطيات الحالية- أن ينتظر المواطن أن تدفع الدولة عنه كل شيء، ولم يعد مُستساغا أن يتجاوز دعم المحروقات 500 مليون ريال سنويًّا. إنَّ الحلولَ التي علينا أن نتبناها كمجتمع،ينبغي ألا تتجاهل الأجيال القادمة حتى لا نُثقلها بالديون.
نحتاج -وفقا لـ"اقتصاد الضرورة"- إعادة ترتيب أولوياتنا، وأن نفرِّق بين الحاجة والضرورة، والعمل على تنفيذ المشاريع وفقا لمقتضيات الضرورة؛ فنحن نحتاج أشياء كثيرة في حياتنا، إلا أننا مع الظروف الحالية علينا أن نرشد الصرف وحصره على الضروريات؛ فهناك الكثير من الكماليات التي يُمكننا أن نستغني عنها في مُوازناتنا المثقلة بالمصروفات، وقد آن الأوان لأن نتحرَّك جميعًا بروح الفريق لحماية المال العام، وترشيد إنفاقه؛ حتى نعبر متاهات الأزمة الاقتصادية الحالية بسلام.