لم نكن نعلم أننا غرباء إلى حد الجهل!

رحاب أبو هوشر

في الحي الواحد، قد يتجنب الشخص جاره، أو يعامل آخر زميله بعدائية وتشنج. يبني جدارا في العلاقة معه، كي لا يتضرر من هذه العلاقة، إنّه يتوقع الضرر سلفا! الواقع أنّه لم يتعرف إليه، حتى يبني موقفا تجاهه سواء كان سلبيا أو إيجابيًا، وعوضًا عن التواصل والاكتشاف لتحقيق المعرفة، يلجأ إلى التمترس خلف مخاوفه، يحمي تكوينه الهش، بسلبية تمنحه الشعور بالأمان، وتعفيه من مجازفة الانفتاح وتكلفتها وجهدها. الخيار الأمثل هنا أن يخضع الجار أو الزميل لتصوراته الذهنية، وقوالبه النمطية، بناء على افتراضات تخصه، مخاوفه وشكوكه وهواجسه. إنّه يراه وفق حمولة تاريخيّة من المدركات والمواقف، وليس بما يتفق فعلا مع حقيقة جاره أو زميله. في العديد من الحالات، تشاء الصدف أن يجتمع الشخصان، ويتواصلا، فيكتشفان بأنّ كلا منهما كان يحمل صورة ذهنيّة سلبية ومضللة عن الآخر، مشحونة بالشك والرفض، أو مهما كان الحال إلا أنّها مختلفة عن حقيقة الشخص، ولا بد أنّهما سيشعران بفداحة خسارة، سببها الجهل وعدم معرفة الآخر، لكن سببها الجوهري كان الخوف والضعف.

حتى ترفض الآخر، يجب عليك أن تشوهه، أن ترميه بالصفات القبيحة، وتجرده من أي قيمة إنسانية أو أخلاقيّة. وحتى تضمر له العداوة والكراهية، وتستعد لمواجهته، لا بد من شيطنته، بمقابل رفع منسوب تفوقك الأخلاقي أو تقمصك لدور الضحية أمام ذلك المتوحش. ولن تتمكن من كل ذلك، إن قدمته بملامح كاشفة واضحة، إن اقتربت منه وعرفته أكثر. لا بد من أن تبني له صورة مخلوق غامض تحوم حوله الشبهات، بما يشكل خطرًا على قيمك وأفكارك، بل على حياتك ومصيرك، إذ لا يصبح رفضك وكراهيتك مقبولين أو معقولين إن اعتقدت أو وافقت على وجود مشتركات عديدة بينكما. إن رأيت في هذا الآخر بوضوح وبساطة، شريكا لك وإنسانا مثلك.

نقول بأنّ فكرة العيش المشترك بين المكونات الاجتماعية مهددة بالقضاء عليها، بفعل الفوضى السياسية والعسكرية في عدة بلدان عربية، والخطاب الطائفي الذي رافقها، ونتج عن تلك الفوضى في حالات، وفي حالات أخرى أنتجها. ولكن ألا يشير هذا التهديد الخطير إلى هشاشة واقع الفكرة ذاتها، حتى أصبحت عرضة للانتهاك والانهيار بهذه السرعة والسهولة؟

يسقط في يد الواحد فينا، وهو يتابع ما يحدث من استقطاب وتناحر بين مكونات كان يجمعها الانتماء لهوية وطنية واحدة، ويتساءل عن جدية وصلابة ما كان يعتقده عيشا مشتركا طوال سنين، ليكتشف بأنه بني على الانغلاق والخوف، والجهل بالآخر، أكثر من كونه كان مبنيا على الانفتاح والثقة والمعرفة. ربما لم يكن عيشا إذن، بما يتطلبه العيش من توافق واعتراف، بقدر ما كان تعايشا، أي القبول "قسريا" بوجود آخر، لم يكن لأحد الخيار حياله، حتى جاءت لحظة الفوضى والضياع، فصارت كل طائفة دينية أو فئة إثنية تخرج ما اختبأ خلف جدران صمتها التاريخية، من مواقف مسبقة معادية للآخر، مستندة إلى تصورات نمطية وأوهام سلبية حوله، تعكس ذهنية مشتركة إقصائية ترفض الآخر وجودا وتوافقا.

مرة واحدة، بدأنا نسمع آراء غريبة وروايات أغرب، لا تخرج في مضمونها عن حاجة كل فئة إلى تكريس نمطية النظرة للآخر، هذا الغامض المجهول والمريب، الشاذ بأفكاره وسلوكه، والمتحفز للانتقام من الآخر وسحقه بالضرورة، أما في الحالة الطائفية، فالآخر لا بد أن يكون كافرا أو ضالا في أكثر الآراء والمرويات مرونة. الدرس الأساسي كان أن جميع المكونات كانت "متعايشة"، وهي غريبة عن بعضها. لا يعرف أي منها حقيقة الآخر، سواء بالنسبة لخلفيته التاريخية أو معتقداته الفكرية أو خصوصياته الثقافية والاجتماعية، مما سهل اليوم مهمة تجار السياسة والدين، في تفتيت تلك المكونات وتجنيد معظمها في خراب التناحر.

المسيحي كافر وديانته تبيح الموبقات، والشيعي لا يؤمن بمحمد رسولا، والسني إرهابي بتكوينه التاريخي، أمثلة على الاستثمار في حالة الانغلاق والاستقطاب. في أوساط الفئات كلها، يجري بث وتداول روايات وأقاويل تستهدف الآخر، تتحدث عن ممارسات ومعتقدات محشوة بالأكاذيب غالبا، تعمق الجهل والكراهية وتهدف للتحريض الفئوي، بتشويه ذلك الآخر، في مجتمعات ترتفع فيها نسبة الأمية، الأبجدية والثقافية، ويحكمها الانغلاق والتزمت. قلما يقرأ الناس أو يبحثون للتأكد من مصداقية ما يسمعون، ويعتمدون بشكل شبه كلي على وسائل الإعلام ومواقع شبكة الانترنت، كمصدر إخباري ومعلوماتي وحيد. لقد استثمر الإعلام الخاضع معظمه لأجندات سياسية تموله وتديره، في جهل الناس وكسلهم. إنه يعلم مدى تأثيره ونفوذه في المجتمع. وقام بعمليات غسيل دماغ حثيثة لهم، طوال سنوات اماضية، أعاد فيها إنتاج وعيهم وفق انتماءاتهم الفرعية/ الطائفية، على حساب انتمائهم الوطني، حتى أصبح شركاء الوطن الواحد أعداء يحسمون اختلافهم وخلافهم بالقتال الدموي.

تعليق عبر الفيس بوك