الأوركسترا السيمفونية السلطانية العمانية: من فكرة ملهمة وحلم طموح إلى كيان نابض وواقع ملموس

د. ناصر الطائي *

لطالما راود حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- حلم منذ أكثر من ثلاثين عاماً بتأسيس فرقة أوركسترا عالمية محترفة؛ يتكوَّن جميع أعضائها من العُمانيين. إنها بلا شك فكرة مُلهِمة نابعة من إيمان جلالته -أيَّده الله- بقدرات شعبه ودعمه السخي للفنون. فكرة نابعة من قلب مُتحمِّس غيور يُؤمن بقيمة الأصالة، والإلهام، والإبداع، والعمل الجاد في تشكيل مؤسسات مبنية على مبادئ ومعايير عالمية. فكرة لا تمرُّ على خاطر أحد سوى قائد كريم، ورائد مستنير، وربَّان سفينة معطاء مثل جلالته حفظه الله. وبعد وضع إستراتيجيات توظيف معقدة وإجراء دراسات واستشارات عديدة، أعْرَب العديد من المستشارين عن تخوفهم من عدم إمكانية تحقيق هذا الحلم. غير أنَّ جلالة السلطان كان على يقين تام بدور الفنون في إرساء الثقافة، والدبلوماسية، والتعاون بين الأمم. كما آمن بضرورة تطويع الموسيقى كأداة إنسانية مهمة في نشر قيم إنسانية؛ مثل: السلام، والتسامح، والتعايش بين الشعوب، تلك المبادئ العُظمى التي ننعم بها في وطننا الحبيب تحت ظل قيادته الحكيمة لعُماننا الغالية.

النشأة والتأسيس

وجاء تأسيس الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية بخطوات تدريجية مدروسة بعناية؛ حيث تمَّ في العام 1985 -تحت إشراف مباشر من جلالته- اختيار مجموعة من الموسيقيين الشباب الموهوبين من الجنسين بناءً على مهاراتهم الموسيقية في مجالات الألحان، والإيقاعات، والأنغام. وحصل المرشحون المنتقون جميعاً على دراسات مكثفة في الموسيقى، سواءً داخل عُمان أو خارجها، برعاية الحرس السلطاني العُماني. وترقب الجميع وصول الآلات الموسيقية بلهفة وشوق، وغمرتهم السعادة لدى وصولها، لدرجة أنَّ الموسيقيين الشباب حرصوا على ألا يفارقوا آلاتهم مطلقاً. فنشأت بينهم علاقة وثيقة قائمة على حب الفنون ورسالتها السامية علاقة سوف تستمر لسنوات طويلة.

وخضع هؤلاء الموسيقيين العُمانيين لتدريبات مكثفة داخل حرم القصر السلطاني. واعتادوا بعد حضور البروفات على رؤية جلالة السلطان -يحفظه الله ويرعاه- في انتظارهم خارج غرف الدراسة، تواقاً لسماع عزفهم وتشجيعهم على جهدهم. وكانت رؤى جلالته وأسلوبه الراقي وذوقه الرفيع في الموسيقى، معينَ الحب والحكمة الذي لا ينضب. لقد نشأ هؤلاء الموسيقيون بعيداً عن كل وسائل التشتيت في كنف آمن داخل القصر السلطاني، فاعتنقوا أفكاراً ومُثلَ عُليا جديدة بهدف نقلها إلى العالم بلغة السلام، والرقي، والوئام، والمحبة. كانت بالفعل فكرة مُلهِمة جسورة، أسهمتْ في تدفق بئر بمعاني المجد تحت راية قائد حكيم ورؤيته المستقبلية المستنيرة. وطوال الـ45 عاماً الماضية من حكم جلالته المجيد، استطاعت مبادئه الإنسانية -بالتفاهم، والجمال، والرقي- تشكيل كل جوانب حياتنا كفنانين طموحين وتواقين للعلم والمعرفة.

سفير موسيقي

وشهد يوم 1 يوليو عام 1987 تقديم الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية حفلها الموسيقي الأول في قاعة فندق قصر البستان، برعاية حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -يحفظه الله ويرعاه- ومنذ ذلك الحين، قدمت الأوركسترا أكثر من 140 حفلاً موسيقياً، خاصاً وعاماً؛ سواءً داخل السلطنة أو خارجها. وفي مآدب العشاء السلطانية، ظنَّ الحضور الذين لم يعرفوا بشأن مشروع تأسيس الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية أنهم يستمعون إلى مقطوعات مسجَّلة على أسطوانات رقمية. فكان جلالة السلطان -أيَّده الله- يبتسم بمنتهى الفخر، ويجيبهم بأنه عزف حي. وبالفعل، كان عزفاً حيًّا ومفعماً بالحيوية، وثمرة سنوات طويلة من العمل الجاد الدؤوب. وتقف هذه الأوركسترا اليوم رمزاً للإصرار والعزيمة، ورسالة لكل العُمانيين وللعالم. سرعان ما أصبحت الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية سفيرَ عُمان الموسيقي إلى العالم، فقدمت عروضها في أشهر القاعات المرموقة في الإمارات العربية المتحدة، وبلجيكا، وألمانيا، وفرنسا. كما قدمت الأوركسترا عرضاً في برلين، احتفالاً بالذكرى الـ20 لتأسيسها، بمصاحبة الفنان الهندي الشهير الدكتور سوبرامانيام والفنان اللبناني مارسيل خليفة، وترمز الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية اليوم للسلام والمحبة، فهي ومثال حي للمثابرة والإخلاص والنظرة المستقبلية والفكر المستنير لصاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -يحفظه الله ويرعاه- وقيادته الحكيمة لعُمان.

وسيظلُّ مشروع الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية جسراً نابضاً بالحياة وحلقة وصل بين الشرق والغرب. وستظل حفلات الأوركسترا في مختلف أنحاء العالم مناسبة بهيجة تطرب الآذان، وتسرُّ الأعين، وتملأ قلوب عشاق الموسيقى بالسعادة في كل مكان. يصعد أعضاء الأوركسترا على المسرح بملابسهم الزاهية التي تحتفي بألوان العلم العُماني، وتفوح رائحة البخور الساحرة لتملأ القاعة وتذكرنا بتاريخ عٌمان التليد. وبمجرد أن تنطفئ الأنوار ويسود الصمت القاعة، تدب الحياة في التاريخ العريق، وتمتزج الأفكار القديمة والحديثة بتناغم رائع لتجسِّد لحظات خالدة من التجارب الفنية المبدعة التي تأسر قلب الجمهور وتدخل القلوب بلا استئذان.

وقدَّمت الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية حفلاً في برلين، بقيادة المايسترو سايمون رايت، تضمن عزف الافتتاحية الموسيقية لشوستاكوفيتش (مصنف 96) في سلم لا صغير، ومتتالية مارسيل خليفة للعود والأوركسترا، وكونشرتو الكمان للدكتور سوبرامانيام. لا شك أن الموسيقى كالتاريخ، تسافر فيها الألحان من أسوار الفخامة في موسكو، عابرة السهول المغربية والأندلسية، مارة بأمجاد بابل، لتصل إلى جبال الهمالايا متخطية كل الحواجز الجغرافية المصطنعة. وبالمثل ينتقل البرنامج بحرية تامة من الارتجالات (تقاسيم وراجا) إلى القواعد الصارمة للألحان الغربية المصاحبة، ومن الاحترافية إلى الحميمية، ومن التجانس إلى التعدد الصوتي، ليعكس تقنيات متقدمة ومهارة موسيقية فائقة للعازفين والعازفات من أعضاء الأوركسترا.

دار الأوبرا السلطانية

ويأتي عرض الليلة الذي تقدمه الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية في القاعة العريقة لدار الأوبرا السلطانية مسقط بمثابة تكليل لنجاح مشروعيْن طموحيْن؛ فمع احتفال الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية بذكراها الثلاثين، تدشن دار الأوبرا السلطانية مسقط موسمها الخامس. لقد أصبح الحلم حقيقة واقعة ملموسة؛ تلك الفكرة المُلهِمة التي شهدت ميلاد أوركسترا محترفة من العُمانيين أثمرت كياناً يفيض بالعاطفة والرقي. ليست الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية سوى انعكاس لإخلاص جلالته -حفظه الله ورعاه- واهتمامه منقطع النظير بالموسيقى ودعمه العميق للفنون. تضمنت رؤياه السامية بناء دولة عصرية، متنوعة، نابضة بالحياة؛ دولة تحتضن ماضيها، وتواصل تقدمها نحو مستقبل مشرق.

لقد تحقق حلم الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية بالرغم من التحديات الكثيرة التي أحاطت به، وظهرت الأوركسترا من بذرة فكرة مُلهِمة؛ فكرة ملأت قلب وعقل قائد حكيم. وارتوت الفكرة بماء الشغف والحب وإدراك دور الثقافة كأداة للدبلوماسية الثقافية، والتفاهم، والحوار بين الشعوب. لقد أدرك جلالة السلطان -أيَّده الله- الأثر الثقافي لتأسيس الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية. وأشار إلى ضرورة الحاجة للموازنة بين الثقافات، بين الحداثة والتراث، مع علمه المسبق بأنَّ تأسيس أوركسترا غربية محترفة لا يعني إهمال أو إغفال تقاليدنا وتراثنا. كما أكدّ جلالته: "نحن نحاول الحفاظ على تراثنا الموسيقي في عُمان. لا يمكنني تفضيل لون على آخر أو الفصل بين الأعمال. تعجبني الموسيقى الأندلسية، والتركية، والإيرانية، والكثير من الموسيقى الهندية والإفريقية....أتمنى أن تثمر كل هذه الجهود المبذولة لتطوير الموسيقى، وأن تنجح في تحقيق غايتي المتمثلة في رفع مستوى الوعي الثقافي لدى الأفراد بوجه عام، ومستوى التعليم الموسيقي بوجه خاص". إنها الرؤية السامية لقائد المسيرة والنبع الذي لا ينضب لنشر السلام والمحبة والوئام.. مبادئ جعلت من عُمان اليوم محطة مهمَّة للدبلوماسية الثقافية وللسلام في العالم.

4 سنوات من العطاء

ومن منطلق نفس الرؤية الحكيمة والتفكير في المستقبل، بادر جلالته بتأسيس دار الأوبرا السلطانية مسقط لتكون منارة للفنون وواحة للثقافة في المنطقة. ومنذ أربع سنوات -وتحديداً في العام 2011- أعلنت دار الأوبرا السلطانية مسقط بداية عصر جديد من الحوار بين الشعوب. ومنذ ذلك الحين، شهدت قاعة الأوبرا المهيبة تقديم مئات الحفلات الموسيقية لأشهر فرق الأوركسترا، وفرق الأوبرا، والفنانين المعروفين حول العالم. وأسهمت عروض الأوبرا، والحفلات السيمفونية، وحفلات الجاز، وحفلات موسيقى الأرغن، وموسيقى العالم، وليالي الطرب، وأمسيات الإنشاد في تدعيم مكانة مسقط كمحور للثقافة في المنطقة. ولقد قدم الموسم الافتتاحي المذهل نجوماً لامعين على غرار بلاسيدو دومينجو، ورينيه فليمنج، وماجدة الرومي، ويويوما؛ ومسارح معروفة مثل مسرح الباليه الأمريكي، وفرقة باليه "مارينسكي"، وفرقة باليه "لاسكالا"، فضلاً عن مشاركة أوركسترا مركز لينكولن لموسيقى الجاز بمصاحبة الفنان وينتون مارساليس في فعاليات الموسم الافتتاحي الرائع.

الأهم من ذلك أنَّ هذه الحفلات الموسيقية تُسهم في تعزيز إيماننا بالقيم الإنسانية وبدور الموسيقى كلغة عالمية مبنية على الإستثمار في القيم الإنسانية المشتركة. لا شك أن القادة العظماء أصحاب الرؤى المستقبلية يتمتعون بالقدرة على توحيد الصفوف وإلهام الأفراد، ولا شيء أدل على عظمة وريادة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- من هذه المشاريع المبتكرة التي تهدف لخير عُمان ووفاء لتراثها وتاريخها التليد.

لقد أصبحتْ الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية اليوم رمزاً لفخر وعزة كل العُمانيين. إنها جهد نابع من عزيمة وإصرار جلالته، وتفانيه، ونبل أخلاقه؛ وفكرة ارتوت بذوقه الرفيع، وعنايته الكريمة، وتوجيهه المستنير الذي قاد عُمان إلى ما هي عليه الآن: أمة واثقة من نفسها، تركز أنظارها على المستقبل، يملؤها الطموح، وهي في الوقت ذاته أمة تحتفي بتقاليدها، وماضيها التاريخي المجيد، وتراثها الغني.

البرامج الموسيقية العالمية -مثل حفل الليلة الذي تقدمه الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية- تؤكد مرة بعد مرة على التزامنا بقيم السلام والتعايش لأنه بين هذه الجدران المقدسة، لم يعد هناك وجود للشرق أو الغرب؛ لثقافات متقدمة أو متأخرة؛ لحضارات شفهية أو مكتوبة؛ لا يوجد هنا سوى الموسيقى... لغة السلام والحب والوئام.

تعليق عبر الفيس بوك